لا ينجح في الحياة غالبا، إلا ذلك الإنسان الذي يمتلك أهدافا محددة، أو كما يقولون في علم الإدارة؛ أهدافا ذكية، ولديه من بعد ذلك خطط دقيقة للوصول إلى هذه الأهداف. وأما ذلك الذي لا يدري على وجه الدقة ماذا يريد أن يحقق في حياته، أو يعرف هذا ولكن لا يدري كيف يصل إليه، فغالبا، بل ربما من الأكيد، أنه سينتهي إلى الفشل.
وفي تلك القصة المعروفة، أليس في بلاد العجائب، تسأل أليس بطلة القصة القط تيشاير عن الطريق، فيرد عليها قائلا إن ذلك يعتمد على الوجهة التي تريد الوصول إليها، فتقول له: إنه لا توجد وجهة محددة في ذهنها، فيجيبها: إذن فكل الطرق سواء. وكذلك يكرر خبراء الإدارة: إن من يفشل في التخطيط، يكون في الحقيقة قد خطط للفشل.
هذا الذي قلته ليس جديدا، بل أنا واثق من أن أغلبية من يقرؤون هذه السطور يعرفونه، لكنني ذكرته لأني واثق في المقابل، وهذا مثبت في كثير من الدراسات الإدارية، بأن نسبة قليلة جدا من الناس ـ قرابة الثلاثة في المئة فقط، حسب المصادر ـ هي التي تضع أهدافا واضحة ومحددة لما تريد تحقيقه في حياتها، وأن نسبة أقل منها هي تلك التي تضع هذه الأهداف بصيغة مكتوبة، حتى تكون أمامها لتراجعها بشكل دائم، وتقيس مدى نجاحها في تحقيقها.
لكن هذا الموضوع، وبالرغم من أهميته، ومن كونه الأساس المادي الأهم لنجاح الفرد في حياته، بعون الله تعالى، إلا أنه ليس سوى جسر أردت أن أعبر منه نحو موضوع اليوم، وهو الذي جعلت عنوانه البراغيث، كما رأيتم أعلاه، ولهذه التسمية قصة.
مثل صيني قديم يقول: الكلب القابع في الحظيرة ينبح على البراغيث من حوله، وأما الكلب الصياد فلا يدري عنها. والحقيقة أن هذا المثل الظريف، يصور وبدقة مسيرة الفرد في هذه الحياة، لأن ذلك الإنسان الذي يمتلك رؤية واضحة لما يريد تحقيقه، ويسير على خطة محددة نحو ذلك، هو فرد ناشط بالحركة في هذه العجلة المحسوبة دورتها بكل دقة، وأما ذاك الفرد الفارغ الفكر أو النفس، فيمتلك طاقة كبيرة مخزونة لم يصرفها في شيء قط، ولا يتوانى لذلك عن هدرها وتبذيرها على أي قضية تافهة، أو صراع جانبي، أو معركة هامشية مفتعلة أو وهمية مع هذا الطرف أو ذاك.
الفرد الذكي صاحب الرؤية والخطة، لا يسمح للبراغيث، سواء من القضايا والموضوعات والصراعات أو البراغيث من الأشخاص، بالاستحواذ على تفكيره والاستيلاء على نفسه ومزاجه، واستدراجه بعيدا عن مساره، بل هو يدرك بذكاء، أن من شأن هذا كله أن يحرفه عن تحقيق أهدافه، وأن يجرفه نحو ما سيؤدي إلى إيقافه وإفشاله، أو تعطيله وتأخيره على أقل تقدير.
ونجاح الفرد دائما ما يكون مدعاة لحسد وغيرة الكثير من الآخرين، وبالأخص أولئك الذين يقبعون ويرتعون في مستنقعات الكسل والإخفاق، لأنهم يودون لو أن كل الناس قعدوا معهم في ذات الوحل، ولذلك قيل: لا يرمى بالحجارة إلا الأشجار المثمرة. فمن سنة الحياة أن تتجه سهام الاتهام والتخوين والتجريح، وغير ذلك من الإساءات، نحو الناجحين المجتهدين، وبالأخص أولئك الذين يتصدون للعمل العام، ويضطرون لمواجهة الناس والاحتكاك بهم. وقد قال ابن حزم رحمه الله: من تصدر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لا محالة مشتوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار.
إن الحياة يا سادتي لا تحابي أحدا بطيب فعاله، ولا تنقم عليه بسوئها، بل كل شيء سائر وفقا لمقادير الله عز وجل، لحكمة عظيمة شاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه، وبقدر ما يتلقى المؤمن من ابتلاءات في هذه الدنيا، وبقدر ما يصبر ويتمسك بإيمانه ولا يجزع، فإنه يجزى الجزاء الأكبر، وينال الخير، عاجلا أو آجلا. ولنا في قصص الأنبياء على مر العصور العبرة البالغة، فلم يتلق أحد من الابتلاء والعذاب والألم أكثر منهم، وهم الذين لم يأتوا إلا لهداية الناس، وإخراجهم من الظلام إلى النور.
لهذا، فعلى المجتهدين والساعين نحو النجاح، وكذلك الراغبين في الخدمة العامة، أن يدركوا هذه المسألة تمام الإدراك، فيوطدوا أنفسهم لها ويتهيؤون لاستقبال لسعات وضربات شتى، قد تأتيهم أحيانا بلا مقدمات ودون أسباب وجيهة، وربما في أوقات لا يتوقعونها فيها أبدا، وأن يدربوا أنفسهم على تحمل ذلك والإعراض عن المسيئين، بل وأن يتساموا ويرتقوا إلى مستوى العفو عمن أساؤوا إليهم، وأن يحسنوا إليهم إن وجدوا لذلك في أنفسهم سبيلا، لأن الله يحب المحسنين. بل عليهم أن يصنعوا من هذا كله سلالم يرتقون فوقها، فيتعلمون منه الصبر على المكاره، ويتدربون من خلاله على الحلم والسيطرة على النفس، ويصلون عبره نحو تزكية النفس وتنقيتها، ليكون كل أمرهم خالصا لوجه الخالق سبحانه.