تزداد في المنطقة العربية مشاعر اليأس من "الهويّة المشتركة" بين العرب، ويصل الأمر ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وإلى تحميل العروبة مسؤولية تردّي أوضاعهم.

هؤلاء يخلطون بين إيجابيات الانتماء للأمَّة العربية وبين الظروف التي تمرّ بها، بين العروبة والأنظمة، بين الهويّة والممارسات. فهي مشكلة التعامل مع الانتماء العربي بالنظرة الآنية إليه، وليس بمقدار ما هو قائم موضوعياً.

إنّ الحالة العربية الراهنة هي مسؤولية الخجولين من انتمائهم قبل غيرهم، لأنّهم عرفوا أنّ هناك مشكلةً في أوطانهم فرضت عليهم "الخجل" من الهويّة العربية، إلا أنّهم عوضاً عن حلّ المشكلة أو المساهمة قدر الإمكان في حلّها، اختاروا التهرّب من الانتماء المشترك، فعجزهم أمام مشكلةٍ تعنيهم دفَعهم للهرب منها، إمّا إلى "الأمام" لانتماءات أممية (بأسماء تقدّمية أو دينية)، أو إلى "الخلف" بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية.. بل ماذا فعل هؤلاء حتى تبقى أوطانهم واحدةً تتطوّر وتتقدّم وتتكامل، بدلاً من دفعها للعودة إلى حروب القبائل والطوائف؟!

كثيرون يتنافسون الآن على إشعال فتاوى "الفقه الديني"، وبعض هذه الفتاوى يُفرّق ولا يُوحّد، لكن "فقه التاريخ والجغرافيا" ما زال عِلماً لم يُدركْه العرب بعد! فالشعوب تنتقل خلال مراحل تطوّرها التاريخي من الأسرة إلى العشيرة، ثمّ إلى القبيلة فالوطن والأمة، فلِمَ يريد البعض أن يعيد دورة الزمن إلى الوراء؟

لعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلّها، بما فيها القضايا التي لا يجوز الفصل أصلاً بينها. فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني، أو بالعكس! والولاء الوطني أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمامات الدينيّة أصبحت خطراً على الوحدة الوطنيّة!

ويرافق هذا الحال من التمزّق في القضايا والأهداف، رُؤى خاطئة عن "المثقّفين العرب" من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أن "المثقّفين العرب" هم جماعة واحدة ذات رؤية موحّدة، بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة، قد تبلغ أحياناً حدَّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوّع حاصل على معايير فكرية وسياسية.

صحيحٌ أنّ "المثقّفين" هم الجهة المعنيّة بالإجابة عن سؤال: "ما العمل؟" لإصلاح أوضاع الأوطان والأمّة عموماً، لكن الانطلاق من فرضيّة أنّهم كتلة عربية واحدة تعيش واقعاً واحداً وتحمل فكراً مشتركاً، هي فرضية خاطئة وتزيد من مشاعر الإحباط والعجز.

إنّ "المثقّف" هو وصف لحالة فرديّة، وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون "المثقّف" منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة "المثقّف"! فكلمة «مثقف» يمكن استخدامها ككلمة «لون»، إذ هناك حاجة لوضع كلمة أخرى تُحدّد المعنى المطلوب، كالقول «اللون الأحمر» أو «الأخضر».

 لذلك من المهمّ تحديد صفة "المثقف العربي" المُراد الحديث عن مسؤوليته، فهو «المثقّف الملتزم بقضايا وطنه أو أمّته»، أي الجامع بين هموم وطنه وهموم الأمة من حوله، كما الجمع عنده بين العلم والعمل، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي أنّ "المثقف الملتزم" هو «طليعة» قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضعٍ أفضل ممّا هو عليه.

وهناك عدد لا بأس به من المثقّفين في المنطقة العربيّة الذين يرفضون الاعتراف بالانتماء إلى هويّة عربيّة، وهؤلاء تجوز تسميتهم بـ"المثقّفين العرب"، وإن كانوا لا يعتقدون أصلاً بالعروبة ويناهضونها فكراً وعملاً!

إذن، مسؤولية العرض السليم للهويّة العربية المشتركة، تقع أولاً على المثقفين العرب الذين يعتقدون أصلاً بمفاهيم فكريّة مشتركة حول الانتماء والهويّة، وحول توصيف الواقع وأسباب مشاكله، ثمَّ مسؤوليتهم بوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبل عربي أفضل. عند ذلك، يمكن لهذه الفئة من "المثقّفين العرب" أن تساهم في عودة العرب للعروبة، بدل هذا الانحدار الخطير الحاصل في "الهويّة" وفي مصير الأوطان معاً.

أمّا الحديث بالمطلق عن مسؤولية "المثقّفين العرب" والتساؤلات عن غياب دورهم، فهذا غير صحيح وغير واقعي. فهناك "مثقّفون عرب" يدافعون الآن عن واقع الحال القائم، كما هناك من يختلف معهم ويناقضهم في الفكر والعمل. فالضعف هو إذن في فئة "المثقّفين" المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها، كالديمقراطية والعدالة والتحرّر الوطني والتكامل العربي.

الضعف هو في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً في موقع واحد، لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات، بل في تنافسٍ أحياناً.

لكن من المهمّ أيضاً أن يدرك كلّ إنسانٍ عربي، أنّ في الأمّة العربية مزيج مركّب من هويّات "قانونية" (الوطنية) و"ثقافية" (العروبة) و"حضارية" (الدين). وهذا واقع حال ملزم لكل أبناء البلدان العربية، حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.

فالآن تعيش المنطقة العربية بمعظمها مخاطر التهديد للوحدة الوطنية، كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما زال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية، ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

وقد اعتقد بعض العرب أنّ إضعاف الهويّة الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، وكان ذلك كمن أراد إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وإفساح المجال أيضاً لحرّية التعبير السياسي والفكري للتيّارات كلّها.

وها هي المنطقة العربية حالياً تشهد تحدّياتٍ على بلدانها وأرضها وثرواتها ووحدة مجتمعاتها، دون أي سياج فكري يحصّن الأوطان أو يساهم في دفع الأوضاع نحو مستقبل أفضل.

هي مشكلة كبرى حين يوجد حراكٌ شعبيٌّ مهم، لكن في اتجاهٍ غير صحيح أحياناً، أو بتحريف محلي وتوظيف خارجي له، أحياناً أخرى. فعسى أن يكون الحراك الشعبي العربي مستقبلاً حريصاً على هويّته الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، ومنطلقاً من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة، لا الانتماء الطائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول ـ بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة ـ إلى "اتحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها، كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق المواطنين.

إنَّ الصراع على "الهُويّة" في المنطقة العربية، هو جوهر الصراعات السائدة الآن، وهو صراع دولي/ إقليمي في إطاره العام الجاري حالياً، ويريد البعض تحويله في أكثر من مكان إلى صراعات طائفية ومذهبية. لكن صمّام الأمان لوحدة الأوطان والمجتمعات العربية، يكون في التأكيد على الطبيعة السياسية للصراع، وبملء الفراغ الكامن عربياً، من حيث انعدام المرجعية العربية الفاعلة والمشروع العربي الواحد لمستقبل الأمَّة وأوطانها.

وهذا المشروع لن تقوم له قائمة ما لم تكن حاضرةً فيه، ومعاً، ركائزه الثلاث: الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.