ها هي بلاد العرب تنتعش بحركات تغييرٍ وحراكٍ شعبي واسع من أجل الديمقراطية، لكن بمعزل عن القضايا الأخرى المرتبطة بالسياسات الخارجية وبمسائل "الهويّة"، للأوطان وللنظم السياسية المنشودة كبديل لأنظمة الاستبداد والفساد.

وها هي الثورات الشعبية السلمية التي حدثت في كلٍّ من تونس ومصر، تشهد تساؤلاتٍ عديدة عن طبيعة الحكم القادم في كلٍّ منهما، في ظلّ تزايد المخاوف من هيمنة اتجاهاتٍ سياسية دينية على مقدّرات الحكم. بلدان "إفريقيا العربية" تنشدّ إلى الهموم الداخلية في أوطانها، وفي ظلّ تدويلٍ ممنهج لأزماتها.

كما في ليبيا والسودان والصحراء المغربية. يرافق ذلك أيضاً انشغال بلدان "آسيا العربية" بأزماتٍ داخلية، يهدّد بعضها وحدة الأوطان بمخاطر الحروب الأهلية، كما في سوريا واليمن، وكما هي المخاطر على لبنان والعراق وفلسطين.

هكذا تمتزج الآن على الأرض العربية مشاريع تدويل أزماتٍ داخلية عربية مع مخاطر تقسيم مجتمعاتٍ عربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي. إنّ قانون التطوّر الإنساني يفرض حتميّة التغيير عاجلاً أم آجلاً، لكن ذلك لا يحدث تلقائيّاً نحو الأفضل والأحسن لمجرّد الحاجة للتغيير، بل إنّ عدم تدخّل الإرادة الإنسانيّة لإحداث التغيير المنشود قد يدفع إلى متغيّراتٍ أشدّ سلبيّة من الواقع المرفوض.

إذن، التغيير حاصل في المجتمعات العربيّة بفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث كمّاً ونوعاً، لكن السؤال المركزي هو: التغيير في أيِّ اتجاه؟ هل نحو مزيدٍ من السوء والتدهور والانقسام أم سيكون التغيير استجابةً لحاجات ومتطلّبات بناء مجتمعٍ عربيٍّ أفضل؟!

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أيِّ عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيّ من مسؤوليّة المستقبل، ولا "الجيل الجديد" براء من مسؤوليّة الحاضر؛ كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّةً مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة نحو مستقبل أفضل من قبل الجيل الجديد، هي الأخرى صحيحة وسليمة.

وفي كلّ عمليّة تغيير، هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ أولاً تحديدها: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأيّ غايةٍ أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث. فالغاية الوطنيّة أو القوميّة مثل،اً لا تتحقّق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، طائفياً أو مذهبياً أو فئوياً.

فثلاثيّة: المنطلق والأسلوب والغاية، ضروريّة في عمل الأفراد والجماعات، إذ إنّ تحديد الغاية وحده لا يكفي دون المعرفة الدّقيقة للواقع الّذي يتمّ الانطلاق منه، وبالتّالي للوسائل المطلوبة من أجل الوصول للغاية المطلوبة. وحينما يحدّد الفرد (أو الجماعة) عناصر هذه "الثلاثيّة"، فمن المهمّ إدراك أنّ الغايات قد تكون متعدّدة، لكن من المهمّ ترتيب أولويّاتٍ لها.

كذلك الأساليب، فهي متعدّدة ومرنة تبعاً للظروف والإمكانات، أمّا الواقع (المنطلق) فهو حالةٌ قائمة لا خيار لنا فيها. الخيارات هي فقط في الغايات والوسائل، ومتى تحقّقت الغاية ينبثق عندها واقعٌ جديد ننطلق منه نحو غايةٍ أخرى.

إنّ التّعامل مع سلبيّات الواقع العربي الراهن، والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة، يتطلّبان الخروج أوّلاً من المأزق الّذي يعيشه الفكر العربي المعاصر، في كيفيّة تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر"، وفي التلازم المنشود بين الفكر والحركة.

ولعلّ خير دلالة على التراجع الفكري الحاصل على مراحل منذ أربعة عقود تقريباً، هو تدنّي مستوى الشعارات المطروحة على المستويين الوطني والقومي. فبعدما كانت أهداف العرب في الخمسينات والستينات، هي التحرّر والتوحّد بين الأوطان، أصبح الهمّ الأساس الآن هو الحفاظ على وحدة كل وطن من خطر التشرذم والصراعات.

وبعدما كانت الحرّية تعني تحرّراً من الاحتلال والتسلّط الأجنبي، أصبحت معايير الحرّية تقاس الآن بالمسألة الديمقراطية فقط، وبمدى "الاستقلال" عن العلاقة مع دول عربية أخرى! وبتنا نرى التراجع في مسائل العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد وكيفية توزيع الثروات الوطنية. حتى على مستوى الحركات السياسية ذات السمة الدينية.

فإنّ شعاراتها انتقلت من عموميات "الأمّة"، إلى خصوصيات المذاهب والاجتهادات! كما انتقل بعضها في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.

فالعرب يحصدون الآن نتائج زرعٍ متعدّد المصادر، جرى في العقود الأربعة الماضية، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلّية، سلبياتٍ كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية، لكنْ هذه العقود الزمنية الطويلة، أثبتت أنّ "البديل الحامل للتسميات الدينية" لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلد عربي، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!

وكما فشل هذا "البديل" الموصوف بتسمياتٍ دينية، في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز "البديل الوطني" أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. بل إنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً يكن هذا الآخر.

إنّ التغيير المنشود عربياً لن يتحقّق على أيدي من يشوّهون سياقه محلياً وخارجياً. فالمشكلة هي الآن في انعدام الإرادة العربية المشتركة، وفي تقييد الإرادات المحلية الوطنية ورهنها لسياساتٍ خارجية، إذ لا مشكلة عربياً في الإمكانات والثروات، ولا في العقول والخبرات وحجم الطاقة البشرية، بل هي مشكلة الفكر والأساليب وعدم التوظيف الصحيح لما تملكه الأمّة من خيراتٍ مادية وبشرية.

وما أحوج الأمّة العربية الآن إلى مؤسساتٍ مدنية ومرجعياتٍ شعبية ترفض الواقع وتسعى إلى تغييره، على أن يتمّ ذلك في إطار منظومة فكرية، تقوم على التلازم بين حسم الانتماء لوحدة الهويّة العربية وبين ضرورة التعدّدية الفكرية والسياسية في المجتمعات العربية.

الأمّة العربية بحاجة إلى تيّارات فكرية وسياسية عروبية ديمقراطية لا طائفية، تُخلِص لأوطانها وتعمل لوحدة مجتمعاتها، تصحّح الصورة السيّئة والمشوّهة عن العروبة والإسلام، فلا التطرّف باسم الدين هو الإسلام، ولا الديكتاتورية باسم القومية هي العروبة.