منذ نصف قرن تماماً، وفي يوم 21/5/1962، اجتمع أعضاء "المؤتمر الوطني للقوى الشعبية" المصرية، الذي جرى انتخابه شعبياً خصّيصاً لهدف مناقشة مشروع "الميثاق الوطني" الذي تقدّم به جمال عبد الناصر.
وقد تضمن "الميثاق الوطني" عشرة أبواب شملت نظرةً عامّة على جذور النضال المصري، والظروف التي فرضت حدوث "ثورة 23 يوليو"، ثم دروس النكسات التي عصفت بتجارب التغيير الوطني المصري، وصولاً إلى مفاهيم حول الديمقراطية السليمة وحتمية ارتباطها بالعدل الاجتماعي، ثمّ مشاكل الإنتاج وتطبيق التجربة الاشتراكية، وأخيراً عن الوحدة العربية والسياسة الخارجية في البابين التاسع والعاشر.
طبعاً، أوضاع وظروف كثيرة تغيّرت في مصر والعالم خلال العقود الخمسة الماضية، لكن هذه المتغيّرات كلّها لم تُضعِف من قيمة "الميثاق الوطني" وما ورد فيه من مبادئ عامّة تحتاجها الآن مصرُ وكلُّ العرب. لكن، الآن، مصر السياسية تولد من جديد بعد "ثورة 25 يناير 2011"، وبعد أربعة عقود من ابتعادها عن نهج "ثورة 23 يوليو"، وكأنّ "الميثاق الوطني" في العام 1962 كان في منتصف الطريق بين ولادة "ثورة يوليو 1952" وبين الانحراف بعد 10 سنواتٍ عنها في نهجٍ بدأه أنور السادات واستمرّ فيه وعمّقه حسني مبارك.
الآن أيضاً، نجد "ثورة 25 يناير" بلا دليل عملٍ فكري وسياسي يُرشد حركتها ومستقبلها، فهي الآن ثورةٌ تبحث عن هويّتها وعن القوى المخلصة لها والعاملة فعلاً من أجل تحقيق أهدافها. هي ثورةٌ يريدها البعض انقلاباً على حقبة "ثورة يوليو"، وليس فقط على حكم الفساد والاستبداد والتبعيّة الذي ساد في مرحلة ما بعد عبد الناصر.
إنّ "ثورة 25 يناير" بحاجةٍ ماسّة الآن إلى دليل فكري وسياسي، يستفيد من تجربة "المؤتمر الوطني للقوى الشعبية المصرية" في العام 1962، ويستند إلى ما ورد فيه من مبادئ فكرية ما زالت صالحةً لمصر وللعرب في هذه المرحلة. وهذه فقراتٌ قصيرة ممّا ورد في "الميثاق الوطني"، وفيها دلالةٌ على الأهمّية:
... إنّ هذه الصور من الثورة الشاملة تكاد في الواقع أن تكون سلسلة من الثورات، وفي المنطق التقليدي حتى لحركات ذات طابع ثوري سبقت في التاريخ؛ فإن هذه الثورات كان لا بدّ لها أن تتمّ في مراحل مستقلة، يستجمع الجهد الوطني قواه بعد كل واحدة منها؛ ليواجه المرحلة التالية.. لكن العمل العظيم الذي تمكّن الشعب المصري من إنجازه بالثورة الشاملة، ذات الاتجاهات المتعددة؛ يصنع حتى بمقاييس الثورات العالمية تجربةً ثورية جديدة. إنّ هذا العمل العظيم تحقّق بفضل عدّة ضمانات تمكّن النضال الشعبي من توفيرها:
أولاً؛ إرادة تغيير ثوري ترفض أي قيد أو حد إلا حقوق الجماهير ومطالبها.
ثانياً؛ طليعة ثورية مكّنتها إرادة التغيير الثوري من سلطة الدولة، لتحويلها من خدمة المصالح القائمة إلى خدمة المصالح صاحبة الحق الطبيعي والشرعي، وهي مصالح الجماهير.
ثالثاً؛ وعي عميق بالتاريخ، وأثره على الإنسان المعاصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذا الإنسان بدوره على التأثير في التاريخ.
رابعاً؛ فكر مفتوح لكل التجارب الإنسانية، يأخذ منها ويعطيها، لا يصدّها عنه بالتعصّب، ولا يصدّ نفسه عنها بالعُقد.
خامساً؛ إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان في كل زمان ومكان.
.. إنّ الأصداء القوية التي أحدثتها ثورة الشعب المصري في الأفق العربي كلّه، عادت إليه مرّةً أخرى على شكل قوة محركة تدفع نشاطه، وتمنحه شباباً متجدداً. إنّ ذلك التفاعل المتبادل، يؤكّد في حدّ ذاته وحدة شعوب الأمّة العربية.
.. إنّ الوحدة لا يمكن - بل ولا ينبغي - أن تكون فرضاً، فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفاً مع غايتها، ومن ثمّ فإنّ القسر بأي وسيلة من الوسائل عمل مضاد للوحدة. إنّه ليس عملاً غير أخلاقي فحسب؛ وإنّما هو خطرٌ على الوحدة الوطنية داخل كل شعب من الشعوب العربية.
ومن ثم بالتالي فهو خطر على وحدة الأمّة العربية في تطوّرها الشامل، وليست الوحدة العربية صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها، ولكن الوحدة العربية طريق طويل قد تتعدّد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى هدفٍ أخير..
إنّ شعبنا شعبٌ عربيٌّ ومصيره يرتبط بوحدة مصير الأمّة العربية. إنّ شعبنا يعيش على الباب الشمالي الشرقي لإفريقيا المناضلة، وهو لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن تطوّرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. إنّ شعبنا ينتمي إلى القارّتين اللتين تدور فيهما الآن أعظم معارك التحرير الوطني، وهو أبرز سمات القرن العشرين.
إنّ شعبنا يعتقد في السلام كمبدأ، ويعتقد فيه كضرورة حيوية، ومن ثمّ لا يتوانى في العمل من أجله، مع جميع الذين يشاركونه نفس الاعتقاد.
إنّ شعبنا يعتقد في رسالة الأديان وهو يعيش في المنطقة التي هبطت عليها رسالات السماء. إنّ شعبنا يعيش ويناضل من أجل المبادئ الإنسانية السامية التي كتبتها الشعوب بدمائها في ميثاق الأمم المتحدة، إنّ فقراتٍ كثيرة في هذا الميثاق قد كُتبت بدماء شعبنا، ودماء غيره من الشعوب.
أيضاً، قال جمال عبد الناصر في الباب الأوّل من "الميثاق الوطني"، الذي قدّمه في مايو 1962 للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية: "إنّ قوّة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة، إذا ما ذكرنا أنّ هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم ثوري سياسي يواجه مشاكل المعركة.
كذلك فإنّ هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظريةٍ كاملة للتغيير الثوري. إنّ إرادة الثورة في تلك الظروف الحافلة، لم تكن تملك من دليلٍ للعمل غير المبادئ الستّة المشهورة". اليوم، مصر والأمَّة العربية بحاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى دليل فكري نهضوي إصلاحي، لا يقلّل من شأنه سلامة أسلوب الحراك الذي اعتمده شباب مصر في إطلاق "ثورة يناير". لكن في كل حركة تغيير هناك حاجة لعناصر ثلاثة متلازمة من المهمّ تحديدها وتوفّرها معاً: القيادة، الأهداف، والأسلوب. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث.