صدر قبل حين كتاب نوبواكي نوتوهارا بعنوان «العرب من وجهة نظر يابانية»، قبل ما يُسمى بالربيع العربي. وبدا حينها كاستباق مفاهيمي لما قد يحدث في العالم العربي، واتضح جلياً أن الكاتب يستقرئ المعادلة الوجودية العربية، من خلال المُقدمات الكفيلة بتحويل الظاهر الساكن إلى عواصف وانتقالات تراجيدية، وهذا ما رأيناه منذ «الصُّدفة» البوعزيزية التي أومأت إلى قانون التاريخ ودهائه.

فما حدث في تونس كان تعبيراً موازياً لما حدث لاحقاً في أكثر من بلد عربي، وما اعتبرناه صدفة عابرة، تكشّف عن ناموس صاعق من نواميس التاريخ، وما بدا اعتيادياً سرعان ما تحوّل إلى طوفان عارم، ما زال يعيد إنتاج متوالياته التراجيدية بكيفيات مأساوية وملهاوية.

البحث عن الخيط الرفيع الذي يصل ويفصل بين الظواهر ومقدماتها أمر في غاية الأهمية، وما يجري في العالم العربي ليس بعيداً عن منطق التاريخ والجغرافيا السياسية الدولية. إن مراجعة متأنيّة لحوادث التاريخ القريب والبعيد، تمنحنا فرصة استثنائية لاستباق العواصف والتعامل مع مقدماتها ونتائجها، وفي المقابل تكون الغيبوبة المشفوعة بالاستيهام والنشوة المزيفة، سبباً لدمار هائل.

 ذلك ما حدث على مستوى الإمبرطوريات التاريخية التي سادت ثم بادت، فما بالنا بالحالة العربية المحكومة بالتشظّي والحيرة والقلق! اليوم، ونحن بصدد النظر إلى أمر المنطقة العربية، نرى بعين اليقين كيف أن النظام القديم لن ينحسر بين عشية وضحاها، بل سيظل مراهناً على عناصر قوته النسبية، ومضمونها الفوضى العارمة التي ستضع الجميع في مرجل يغلي بأهله.

نحن اليوم بصدد مكاشفة يابانية للعرب، لا تنتمي للعدو التقليدي، ولا علاقة لها بمنطق الاستشراق المؤسسي الذي كثيراً ما رميناه بتهمة خدمة المستعمر وأهدافه، ولا صلة لهذه الشهادات بمآرب يابانية دفينة، أو أهداف استعمارية جديدة. بل هي شهادات صادرة عن رجل أفنى عقوداً ثمينة من حياته وهو يتتبع الثقافة العربية وأحوال العرب. ينشر الجديد والأجد، ويحاول استقراء عمق هذا الزمان وأبعاده.. يقول الكثير بروح المحبة الخالصة، لا التشفي المُغرض.

هذا هو محتوى كتاب الدكتور الياباني المستعرب «نوبواكي نوتوهارا»، الذي كتب في ما لا يزيد على 140 صفحة ما يراه في العالم العربي، محدداً محنة العرب ومشكلتهم المركزية.. كاشفاً الجوانب الأكثر قتامة وإظلاماً في الزمنين السياسي والمجتمعي العربيين.

يعتقد نوتوهارا أن مشكلة العرب الأولى تكمن في المسافة الفاصلة بين السلطة والمؤسسة، بما يؤدي إلى شكل من أشكال الاستبداد الذي أصبح ينتظم حياة العرب اليومية، فالحاكم العربي - بحسب نوبواكي- وبغض النظر عن تسميته ومرجعيته المُعلنة، ليس إلا حاكماً شاملاً يملك الأرض ومن عليها، والمؤسسة السياسية العربية مهجوسة بخدمة الحاكم والتقاط إشاراته، وتعمير عباراته، وتحويله إلى كائن خرافي يتمدد بأذرع تنين قاتل.. سارح في عطائه المادي الأقرب إلى السفه، أو قسوة انتقامه الدموي المتجاوز للوحشية!

هذا كلام منقول بحرفه مما قاله الكاتب الياباني. نوتوهارا يرى في كتابه هذا، أن الاستبداد في العالم العربي هو السبب المباشر للتآكل الداخلي والضعف العملي، ويرى بصدق، أن الإنسان المُحاصر بالخوف لا يمكنه أن يكون حراً، أو أن يقدم مساهمة خلّاقة في التنمية والتطوير؛ فإذا كان الياباني يخاف من الزلازل والصواريخ الكورية، فإن العربي يخاف على يومه وغده..

مسكون بالرُّعب المؤبد.. يعيش خارج ذاته.. ينفصم، لأنه لا يرى إلا بعدسات الحاكم وبطانته الفاسدة. ويتتبع المؤلف مسارات المحنة وتجلياتها اليومية على مختلف الأصعدة، مُركزاً على الجانب القانوني، فالنص القانوني مرفوع عن القوي، مُسلط على الضعيف. والشفافية غائبة، والمحاسبة تحيق بالصغار، لا المتنفذين اللاهثين وراء المكاسب غير المشروعة.

هذه الشهادات الصاعقة التي قدمها هذا الدكتور الياباني المحب للعرب والعروبة، تكشف لنا فداحة الحال وسوء المآل. فنحن لسنا بصدد أميركي براغماتي، أو أوروبي مقيم في مركزيته التاريخية.. بل أمام وجهة نظر يابانية، نابعة من استقراء وتتبع استمر عقوداً من الزمن.. فهل يمكننا بعد كل ذلك أن ننكر الحقيقة الماثلة وتداعياتها القاتلة؟

ينطلق المؤلف من ذات المرجعية التاريخية اليابانية التي تجيد السفر في الجوّاني وترك البرّاني، والنابعة من مظاهر الحياة اليابانية المتصلة بالأخلاق العامة وثقافة العمل والنظر إلى الآخر، وحتى التعايش الحميد بين الطوائف والملل والنحل، والصادرة في مُجملها عن مرجعيات دينية وأخلاقية مُتقادمة.

ومن الجدير بالإشارة هنا أن المنظور الياباني للمجتمع، يتصل بخريطة العقد الاجتماعي الجامع بين الواحدية والتنوُّع. فالأصل في السائد الديني، على سبيل المثال، أنه لا يشبه «أديان الشريعة» المُتعارف عليها. وتبعاً لذلك لا تحل الشريعة الناظمة لتفاصيل الحياة مكانة مركزية في حياة اليابانيين، وليسوا صادرين تبعاً لذلك، عن علمانية نابعة من صدام تاريخي بين الديني والسياسي، وبين الماضي والمستقبل، كما حدث في أوروبا.

ويكمن السر الأول لذلك، في طبيعة ونوع العقائد السائدة، التي أسلفت الإشارة إلى أنها متعددة وموحّدة في آن. والديانتان الأكثر انتشاراً هما الشنتو والبوذية، وهما، وإن كانتا في التصنيف ديانتين، إلا أنهما ليستا ديانات بالمعنى المُتعارف عليه في ديانات الشرق الكبرى، حتى إننا نستطيع القول بأن الشنتو والبوذية ليستا ديانات أو فلسفات، بل منهج تلمُّس لدروب الحكمة النابعة من العمل والتأمل.

وتتلخص «الحقائق الأربع النبيلة» الأساسية عند البوذيين، في أن الحياة كلها معاناة، لكنها ليست تعاسة بالضرورة، خاصة إذا أدركنا الكيمياء السحرية للوصول إلى السعادة. وبهذا المعنى تمكن إزالة المعاناة من خلال الدّربة الروحية التي تجعلنا قادرين على ترك المعادلة السلبية السائدة، وهي أننا نتمنّى السعادة .

فيما نركض نحو المعاناة. ذلك يضعنا أمام كوة الضوء الخاصة بثقافة أهل اليابان، التي تتلخّص في الوجودية الإنسانية المُتروْحنة بالعمل والعطاء والدّربة والصبر، والمتوازية مع قبول «أعيان المُمْكنات» في الحياة، وملاحظة «الجمع في عين الفرق»، مما ينعكس في المفاهيم الكُلّية للقوة والمنعة والخلاف والاختلاف، بل وكيفية صياغة النظر للأنا المتحررة من عقدة الغيرية السائدة في بعض الثقافات.

بهذه الروافع المعرفية، أزعم أن المؤلف المستعرب الياباني، قرأ الحالة العربية مجتهداً في خلاصاته المُقلقة، ونابشاً في جسد الأسئلة والتساؤلات التي تستحق التأمل والنظر.