هل بدأت واشنطن سعيها الجديد والمكمل لتفتيت الشرق الأوسط عبر العزف على أوتار الطائفية الدينية؟ يبدو أن ذلك كذلك، وأبعاد مخططها الجهنمي لا تخفى على أعين الباحث المحقق والمدقق، فهي من جهة تدعم صعود التيارات الإسلاموية، وعلى صعيد آخر تبلور مواجهة سنية شيعية، وثالثة الأثافي أنها تدفع المسيحيين العرب دفعا في طريق الهاوية.. لماذا هذا الحديث الآن؟

هل أتاك حديث مؤتمر التضامن مع أقباط مصر الذي شهدته أروقة الكونغرس الأيام القليلة الماضية، والاهتمام المتزايد الذي تجاوز أقباط مصر إلى بقية مسيحيي العالم العربي؟ إن النقاشات التي دارت هناك تدفع المرء للتساؤل؛ لماذا الآن تحديدا؟ ومن يقف وراءها؟ وأية أجندات يراد تحقيقها؟

قبل الجواب ولقطع الطريق على أي اتهامات، نقر بأن حرية الرأي والنقاش مكفولة للجميع، لكن غير المقبول هو اللعب بالنار في مثل هذه الأوقات. وفي حالة أقباط مصر تحديدا، فإن الجسد المصري لا يزال مثخنا بالجراح، وفي حاجة إلى من يداويه، لا إلى أيادٍ تضغط عليه لإيذائه.

ذريعة الذين اجتمعوا تحت سقف الكونغرس الأميركي، هي بحث مستقل الأقباط في مصر تحت حكم الإسلاميين، وهو عنوان عريض يحمل في طياته أحاديث كثيرة، جلها منحول وقليلها صحيح. وعلامة الاستفهام التي ترتفع في أعلى عليين؛ هل واشنطن مهمومة ومحمومة بالفعل بمسيحيي الشرق الأوسط، وبالأقباط تحديدا، أم أن الأمر هو أداة جديدة ضمن أدواتها الإمبريالية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟

كل تجربة لها قاض ينظر ويحكم، فانظر إلى حال مسيحيي العراق الذين تم تهجيرهم تحت نير الاحتلال الأميركي، وتساءل معي لماذا لم تقم واشنطن على حمايتهم وهي موجودة هناك على الأرض؟ ثم لماذا لم تعقد الاجتماعات والمؤتمرات في الكونغرس الأميركي لإنقاذ الكلدان والسريان والآشوريين من براثن القاعدة والجماعات الراديكالية؟

أول ما يلفت النظر في هذا اللقاء، هو عنوانه الذي حمل عبارة مثيرة للقلق والشبهات في نفس التوقيت، ولا أظنها تعزز من وطنية الأقباط غير المشكوك فيها، والمشهود لها أبدا بالنصاعة والبراعة، العنوان كالتالي "الأمن القومي الأميركي والنهوض بحقوق الإنسان والأقليات في مصر".

هل هذا تداخل مقصود لدوائر يرى الناظر من بعيد أنها غير متصلة، ويعلم المتخصصون أنها بدايات مرسومة لتحرشات سياسية كتلك التي جرت في العراق وتجري الآن في سوريا؟

ثم تبقى هناك علامة قلق وأرق؛ لماذا لم يرد في هذا المؤتمر أو أي مؤتمر سمعنا به في واشنطن، حديث عن المسيحيين العرب من الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل ولا تزال، حتى أنه لم يعد في المدينة المقدسة القدس التي تمثل بأحداثها وموقعها وموضعها ركنا أساسيا في العقيدة المسيحية، سوى بضعة آلاف يعدون على أصابع اليد الواحدة من المسيحيين هناك؟

ربما كان الجواب كامنا في مذكرات موسى شاريت وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إذ نقرأ في الفصل الخامس من تلك المذكرات نص رسالة بعثها إليه بن غوريون في 27 فبراير 1954، والحديث يدور فيها عن حتمية إنشاء دولة مارونية في لبنان، على أساس أنها أضعف حلقة في جامعة الدول العربية..

ماذا يقول بن غوريون عن الأقباط؟ بنص كلماته: "الأقليات الأخرى في الدول العربية كلهم مسلمون باستثناء الأقباط، ولكن مصر هي أكثر الدول العربية إحكاما وصلابة، والأغلبية هناك تضم كتلة صلبة واحدة، والأقلية المسيحية لا تمثل خطرا على وحدتهم السياسية والوطنية".

هل هذا يكفي لتبيان من يقف في واشنطن ليزخم تلك الحركات بما لا يفيد المجموع المسيحي شرق أوسطيا؟

بن غوريون لا يواري أو يداري هدفه "في زمن الاضطراب أو الثورة أو الحرب الأهلية، فإن الأمور تأخذ منعطفا آخر، وحتى الضعيف سيعلن نفسه بطلا.. ربما الآن هو الوقت المناسب للعمل من أجل إقامة دولة مسيحية بين جيراننا".. لماذا نستذكر أو نستحضر هذه العبارات الآن؟

حتما هناك ربط بين السيناريوهات الجارية وبين بالون الاختبار الاستخباري الذي أطلق قبل عدة شهور، عن مركز راند في أميركا وتم تكذيبه لاحقا، حول تهجير الأقباط إلى سيناء وإقامة دولة مستقلة لهم هناك.. وحال وضع المشاهد بجوار بعضها، تتاح للقارئ فكرة عن مؤامرة التقسيم الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط الحزين.

لا أظن أن اللعب على وتر الطائفية سيتوقف عند مثل هذا المؤتمر، بل سنرى تصاعدا واضحا لإشكالية يمكن أن تمثل كعب أخيل في الجسد العربي المهترئ، ولهذا فإن قضية المسيحيين العرب باتت من أساسيات بنود الأمن القومي العربي، ما يتطلب مراجعة عاجلة وشاملة.

المسيحيون العرب لا أحسبهم يرضون اليوم بفكرة وصاية أوباما أو قيصر روما الجديدة، فتاريخهم النضالي القومي، لا سيما منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، يمثل صفحة شديدة البياض، ولهذا فإنه من الخطأ، بل العار كل العار أن يقبل بتلطيخها، وإن لم يعن ذلك عدم فعل الحق بالمحبة والقول "إن كنت قد تكلمت بالرديء فاشهد بالرديء وإلا فلماذا تضربني".