يعمل تنظيم القاعدة في دول معينة، فهو نشأ في أفغانستان في ظروف سياسية محددة، وانتقل منها إلى مناطق أخرى من العالم، استطاع في بعض منها أن ينشط ويحقق نجاحات، وفى مناطق ودول أخرى لم يتحقق له سوى الوجود القصير.
وهذا الوضع يجعلنا نستطيع أن نتعامل مع التنظيم وكأنه كائن حي، له بيئة محددة حاضنة له إن وجدت استطاع الاستمرار والنمو، وإن لم توجد فإن الموت والفناء هو المصير المحتوم له، مثل بعض أنواع البكتريا والفيروسات.
وأحد أسباب نجاح الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة التنظيم أخيراً، سواء في أفغانستان أم الصومال أم اليمن، هو أنها فهمت إلى حد كبير أن لديه بيئة حاضنة نموذجية، لا بد من التعامل معها ولا بد من الحيلولة دون وجودها أو محاولة تغييرها، حتى يمكن القضاء على التنظيم بصورة حاسمة.
فعلى سبيل المثال؛ نشط التنظيم في اليمن، ولا نقول وجد، في الفترة التي نشبت فيها حرب أهلية أو انفصالية، بين الحوثيين من جهة والدولة اليمنية من جهة ثانية، ووصل أوج نشاط التنظيم في الفترة التي نشبت فيها الثورة ضد الرئيس علي عبدالله صالح.
أما في العراق فهو نشط وينشط في ظل الفوضى والارتباك المترتبين على الغزو الأميركي للعراق، وهو ينشط في ظل وجود استقطاب سياسي قائم على أسس مذهبية وسياسية، وحالة الفراغ الأمني التي يشهدها العراق منذ سنوات المتزامنة مع التناحر المذهبي، تمثل بيئة نموذجية لفرع التنظيم الذي يطلق عليه القاعدة في بلاد الرافدين.
أما في الصومال فقد نشط التنظيم في الوقت الذي تشهد فيه الدولة حرباً أهلية حقيقية، بين تنظيم شباب المحاكم الصومالية من جهة والدولة من جهة أخرى، وهي مدعومة من قوى خارجية تهددت مصالحها بسبب الفوضى الناشبة في الصومال، الأمر الذي أثر على استقرار منطقة جنوب البحر الأحمر، المهمة من الناحية الاستراتيجية للتجارة العالمية.
الأمر نفسه يمكن أن نراه في جمهورية مالي، حيث تطالب قبائل الطوارق وهي من القبائل الرحل التي تعيش على امتداد دول متعددة في منطقة الساحل الإفريقي منها: مالي والنيجر وليبيا والجزائر، بأن يكون لها كيان مستقل، أو على الأقل أن تتمتع بدرجة ما من درجات الحكم الذاتي، في الوقت الذي ترفض فيه الدول المركزية هذا الأمر، وترد عليه بعمليات قمع لثقافة الطوارق.
وخلال الأزمة التي شهدتها مالي منذ شهرين، بدا واضحاً ومعلناً أن هناك درجة كبيرة من التنسيق بين الطوارق والقاعدة، كما نشط تنظيم القاعدة بصورة ملحوظة في منطقة الساحل الإفريقي، في الوقت الذي شهدت فيه مالي الاضطرابات والانقلابات العسكرية، والتي هددت بأن تتحول إلى حرب أهلية.
أي أن عدم الاستقرار السياسي والفوضى والحروب الأهلية، هي واحدة من أبرز عوامل البيئة الحاضنة للقاعدة.
أما العامل الثاني الذي يمكن القول إنه من عوامل البيئة الحاضنة للقاعدة، فهو يتعلق بموقع الدولة في تقرير التنمية البشرية وتقرير التنمية الاقتصادية، حيث إن الدول التي تنشط فيها القاعدة، تتراجع مواقعها في التقريرين، مما يعني أنها دول فاشلة في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية.
ويبدو أن القاعدة لديها آليات ما تمكنها من أن تعمل في هذه الدول، وأن تنسج علاقات مع قوى سياسية أو اجتماعية، سواء أكانت في الحكم أم تتصارع مع قوى الحكم، بما يجعلها تستفيد من المساعدات اللوجستية التي تمدها بها هذه القوى.
كذلك يبدو أن الوضع المالي للتنظيم الذي أسسه أسامه بن لادن، يمكنه من تقديم بعض المساعدات المالية لقوى في هذه الدول، أو للدول ذاتها، وهى دول فقيرة، الأمر الذي يمكن التنظيم من أن يكون له موضع قدم في هذه الدول قائم على قاعدة اقتصادية ما.
والملاحظ أن عمليات مواجهة القاعدة التي تتم حالياً في هذه المناطق، ترافقها محاولات لتحسين الأوضاع الأمنية بصفة عامة، وأيضاً جهود تنموية في المناطق الأكثر احتضاناً للقاعدة في هذه البلدان، بما يمكننا معه أن نقول إنها عمليات لتجفيف المنابع.
وترافق هذا وذاك عمليات أخرى لتجفيف المنابع في الدول التي يعتبر فيها الشباب أكثر اجتذاباً لتنظيم القاعدة، وهى ليست على وجه العموم من تلك الدول التي تعتبر بيئة حاضنة للتنظيم، وهذا الأمر يمكن التعامل معه باعتباره أصبح يمثل أزمة للتنظيم.
فبعد مقتل مؤسسه أسامه بن لادن، افتقد التنظيم القيادة الروحية وأيضاً مصدر التمويل الأساسي، والآن هو على وشك أن يفقد البيئة الحاضنة، الأمر الذي قد يدفع بعناصره إلى الشتات والتيه ما لم يتم وضع سياسات من الدول التي ينتمون إليها من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع، بشرط توبتهم عن أفكار التنظيم..
فضلاً عن ذلك، فهو أصبح أيضاً على وشك أن يفقد العناصر الجديدة الشابة التي تمده بالدم الجديد. وكل ذلك يمكن أن يصب في نتيجة واحدة، وهى أن التنظيم في مرحلة التراجع والأفول.