أثناء الغزو العراقي للكويت تفاجأت النخب الكويتية، على اختلافها، الإسلامية والقومية، بالمواقف المخزية التي اتخذتها بعض النخب التي تنتمي لنفس تياراتها الفكرية في مختلف الأقطار العربية، بوقوف الأخيرة موقف المؤيد للغزو العراقي.
عندها شعر الكويتيون بأن ارتباطاتهم الأيديولوجية والتنظيمية بالتيارات التي تمثلها تلك النخب لم تكن في محلها، وخصوصاً عندما وقفت النخب الخليجية بمختلف انتماءاتها الفكرية، مؤيدة للموقف الكويتي ورافضة تماماً لأي تبرير تجاه الموقف العراقي.
وبعد تحرير الكويت أعادت كثير من النخب الكويتية تفكيرها في انتماءاتها الحَرَكية والأيديولوجية المرتبطة بالخارج، وأدركت أن لكلٍ حساباته الخاصة ومصالحه التي سيقدمها على حساب الآخرين حتى وإن عنى ذلك سلبهم ممتلكاتهم وأرضهم وأرواحهم، طالما أنهم لا ينتمون إلى أرض واحدة.
واليوم يعيد المشهد نفسه ولكن على نطاق أوسع، جغرافياً وأيديولجياً، فالناظر إلى الانتماءات الفكرية لأبناء الخليج لا يكاد يجد انتماءً محلياً صِرفاً، بل بات كثير من الخليجيين يستوردون أيديولوجيات سياسية أو مذهبية أو عقائدية من الخارج، أي من دول الجوار والدول العربية، ثم يحاولون إقحام تلك الأفكار والممارسات في داخل مجتمعاتهم، متغاضين في كثير من الأحيان عن عدم مناسبتها للخصوصية الاجتماعية المحلية، والتركيبة السياسية لذلك البلد.
والناظر إلى ما يجري في الإمارات منذ عدة أشهر يستغرب من الصراعات الأيديولوجية الحديثة تماماً على مجتمعنا، والتي توزعت بين ثلاثة تيارات فكرية: الأخوان المسلمون، والتيار السلفي، والليبرالية.
حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إلهاب الصراع بين المنضوين تحت هذه المظلات الفكرية، متناسين جميعاً أننا نعيش في بلد ينتهج نهجاً وسطياً، سياسياً ودينياً واجتماعياً.
فلم تكن الإمارات يوماً طرفاً أو سبباً في نزاعٍ إقليمي أو دولي، بل كانت ولا زالت من أكبر المستثمرين في التنمية البشرية التي تميزها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وعندما أسس الوالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وإخوته، رحمهم الله جميعاً، هذا البلد، أرادوه بلداً مسلماً عربياً داعماً لقضايا المسلمين والعرب، وذا مجتمع متعايش مع كل الفئات والطوائف والأعراق؛ ولهذا مضينا أربعين سنة لم نرجع إلى الوراء يوماً. لا ننكر أننا مررنا بتحديات تنموية داخلية.
ولا ننكر أيضاً أننا في حاجة إلى تطوير بعض القطاعات الحيوية، كالصحة والتعليم. فلقد سمعتها عدة مرات من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهو يدعو الإعلاميين والمواطنين للنقد البناء الذي تستفيد من خلاله مؤسسات الدولة لتطوير عملها، ولكني أستغرب ممن لا يرى في الإمارات سوى النصف الفارغة من الكأس.
أتحدث هنا باسم أبناء جيلي الذين أوقن تماماً بأنهم يرفضون انتماء أي مواطن لأي حركة أو تيار أو أيديولوجيا، نرفض انتماء أبناء الإمارات لحركة الأخوان المسلمين، أو للتيار السلفي، أو للفكر الليبرالي، أو للمنظمات الأميركية التي تحاول فرض أجنداتها في بلدنا. فالإمارات لم تكن يوماً أخوانية ولا سلفية ولا ليبرالية، بل دولة وسطية، هكذا أسسها والدنا زايد وإخوته المؤسسون، وهكذا يقودها خليفة وإخوته المجددون.
فعندما أدرك بأن أطفالي يتعلمون في مدارس عالية المستوى، وعندما أطمئن إلى أن أبناء بلدي لن يخسروا وظائفهم في أي لحظة لوجود عجز حكومي، وعندما أساهم في بناء المشاريع التنموية العملاقة في بلدي، وعندما أنام دون أن أقلق إن كان باب بيتي مقفلا أم لا، وعندما أنهي معاملاتي الحكومية وأدفع كل فواتيري عن طريق الإنترنت.
وعندما أقرأ ما أريد وأكتب بحرية عما أريد، وعندما أخرج من بيتي إلى عملي وأعود دون أن تنحشر إطارات سيارتي في إحدى حفر الشوارع، وعندما أحتسي القهوة مع أحبتي في أرقى الأماكن وأكثرها رقيا في العالم، وعندما أعلم بأنه من حقي الحصول على أرض سكنية وتمويل حكومي، أدركُ بأنني يجب أن أدافع عن وطني ومكتسباته وقيادته ومواطنيه بكل ما أملك، لأنهم أغلى ما أملك.
وعندما أسمع من يقول بأننا في حاجة إلى توسيع المشاركة السياسية في الإمارات، أقول نعم، نحتاج إلى فعل ذلك ولكن بإرادة الدولة وليس بضغط من الخارج، وبشرطٍ، ألا تكون تلك المشاركة سبباً في عرقلة مسيرة التنمية كما هو حاصل في بعض الدول العربية.
كنت متجهاً قبل مدة مع صديق إيطالي من مدينة إلى أخرى، وفي الطريق استأذنته لدفع فاتورة الماء والكهرباء، فأخرجتُ الآي فون وفتحتُ برنامج هيئة الماء والكهرباء وقمتُ بعملية الدفع في أقل من دقيقة، فسألني عما أفعل، فأريتهُ البرنامج. ظل صامتاً قليلاً وعندما وصلنا قال لي:
"كم كنتُ ساذجاً قبل عدة سنوات عندما اعتقدتُ بأن العرب ما زالوا يسكنون الخيم ويركبون الجِمال، حتى زرتُ الإمارات، فأيقنتُ بأنني قد فاتني الكثير".
فقلتُ له بأننا لا زلنا نفخر بجمالِنا وبخيمنا، ولا زالت جداتنا يروينَ لنا قصص البطولة والصبر والمعاناة حتى يُلهمننا للعمل أكثر، ولكننا قررنا قبل أربعين عاماً أن نتحاشى النواح والصراخ والجدل، ونبدأ العمل.
تمرّ الإمارات هذه الأيام بفتنة داخلية، ولأننا على ثقة بعدالة القضاء الإماراتي، وبمحبة قادة الوطن، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله، لأبناء وبنات الإمارات، فإنني أدعو إخوتي وأخواتي ألا يتسرعوا في إطلاق الأحكام أو في التبريرات، وألا يُقحموا العواطف في المنطق، بل علينا أن ننتظر حتى تتضح الأمور أكثر، ومثلما وثقنا في قيادتنا خلال الأربعين سنة الماضية، فإننا لا زلنا واثقين بأنهم يقودون هذا البلد العظيم في الطريق الصحيح.