تشهد الجمعية العامّة للأمم المتحدة، نهاية الشهر الجاري (سبتمبر)، كما العادة كلّ عام، جملة لقاءات مهمّة بين عدد من قادة دول العالم، لكن ستتميّز لقاءات هذا العام بحضور أزمات عديدة معنيّة بها المنطقة العربية، والتي هي الآن محطّة فاصلة في العلاقات بين الأقطاب الدوليين الكبار.
حتماً، الأزمة السورية هي الأساس في هذه الأزمات، لكن لولا وجود قضايا أخرى متراكمة منذ سنوات، لما أخذت الأزمة السورية أصلاً هذا الحجم من الاهتمام ومن الصراعات الإقليمية والدولية.
فالقضية الفلسطينية، والصراع العربي/ الإسرائيلي المتفرّع عنها منذ عام 1967، هما خلفية مهمّة جداً للتناقضات بين الغرب من جهة، وبين إيران وسوريا من جهة أخرى، وكان الموقف الرسمي السوري الداعم لإيران ولسياساتها في المنطقة، مسألة تستوجب بذاتها النظرة السلبية من الغرب للحكم في سوريا، بغضّ النّظر عن طبيعة النظام الحاكم.
وهكذا، نجد أنّ وجود أزمة كبيرة في العلاقات بين الغرب وطهران، هو أيضاً (إضافة للعامل الفلسطيني وللصراع مع إسرائيل) عنصر مهمّ جدّاً في أسباب تداعيات ما حدث ويحدث الآن في سوريا.
فلو لم تكن هناك «قضية إيرانية/ غربية» قائمة بذاتها، لما انحدرت الأزمة السورية إلى المخاطر التي تشهدها سوريا حالياً. ثمّ جاء الملفّ النووي الإيراني ليكون رأس جليد القضايا الشائكة بين الغرب وطهران، والتي تشمل الآن أيضاً مصير التأثير الإيراني في العراق، إضافة إلى بلدان أخرى تمتدّ من أفغانستان إلى إفريقيا.
إذن، سيطغى الملف السوري شكلاً على الدورة القادمة للأمم المتحدة، بينما الملف الضمني الأساس هو الملف الإيراني وتفرّعاته الإقليمية.
وسيتمّ مجدّداً تهميش الملف الفلسطيني، بحكم الواقعين الفلسطيني والعربي، وبسبب الرغبة الأميركية الآن، عشيّة الانتخابات الرئاسية، ونتيجة التهويل الإسرائيلي بضرورة استخدام القوة العسكرية ضدّ إيران.
لكن، هل هناك إمكانات لحسم عسكري أو سياسي في أيٍّ من الملفّين السوري والإيراني قبل الانتخابات الأميركية، المقرّرة في 6 نوفمر القادم؟ كل المؤشرات والوقائع على الأرض تنفي ذلك، فلا واشنطن في وارد التصعيد العسكري ضدّ إيران، أو التدخّل العسكري في هذه المرحلة في سوريا، ولا أي طرف إقليمي أو دولي قادر على حسم الأمور عسكرياً أو سياسياً في أيٍّ من الملفين، بلا موافقة أميركية.
هي أسابيع قادمة ستكون حافلة بـ«الحركة» السياسية والدبلوماسية، لكن بلا «بركة» من الفاعلين الدوليين والإقليميين، إلاّ في حدود ما يسمح بضبط إيقاعات الأزمة السورية، ومنع وصولها في هذه المرحلة إلى حرب إقليمية، وسيكون الأخضر الإبراهيمي هو المايسترو في ضبط هذه الإيقاعات.
أمّا الأشهر اللاحقة للانتخابات الأميركية، فهي الفترة الحاسمة لمصير الملفين الإيراني والسوري، لأنّهما أصبحا عقبة كبيرة في طبيعة العلاقات بين الغرب الأميركي ـ الأوروبي، وبين الشرق الروسي ـ الصيني، فعالم اليوم لا يتحمّل حرباً كونية جديدة، ولا حتّى حرباً باردة، كالتي شهدها القرن الماضي.
وهناك مصالح مشتركة كبيرة الآن بين «المعسكرين»، ولا يريد أيٌّ منهما التراجع عنها، رغم العناد الأميركي الحاصل في رفض النظام الدولي الجديد، القائم على تعدّدية الأقطاب، ورغم عدم الاعتراف الأميركي بسقوط نظام القطبية الأميركية الواحدة.
وعلى ضوء كيفيّة معالجة «الملف الإيراني»، ستتّضح معالم مستقبل «الملف السوري»، ثمّ على ضوء نتائج التعامل مع هذين الملفين، سيكون التحرّك الجاد بشأن «الملف الفلسطيني»، وعندها فقط، ستُحسَم القضايا السياسية والأمنية العالقة في كلٍّ من لبنان والعراق.
وربّما من المهمّ أيضاً التوقّف هنا عند الذكرى الثلاثين لاجتياح إسرائيل أوّل عاصمة عربية (بعد احتلال القدس وفلسطين)، عندما استغلّت إسرائيل مجازرها في صبرا وشاتيلا في 16 سبتمبر 1982، من أجل تبرير احتلالها لبيروت، بعد محاصرتها لعدّة أشهر.
ففي ذلك التاريخ، كانت بداية نشوء المقاومة اللبنانية المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وبداية لتفاعلات خطيرة شهدها لبنان والمنطقة، وما زالت نتائجها حتّى الآن تعصف بأحداث كثيرة.
إنّ قرار مجلس الأمن رقم 1559 لعام 2005، الذي استهدف، إضافة للوجود العسكري السوري في لبنان، نزع سلاح «حزب الله» والمنظمات الفلسطينية في المخيمات، غفل عن أنّ كلتا الحالتين ليستا صناعة لبنانية أو عربية، بل هما نتيجة للسياسة الإسرائيلية العدوانية لأكثر من نصف قرن.
إنّ إسرائيل كانت هي الطرف المُغيَّب في القرار 1559، فهي حين تُنهي احتلالها للأراضي العربية، وحينما تقوم دولة فلسطينية مستقلّة حقيقية، وحينما تحصل بعد ذلك تسويات سياسية تنهي الصراع مع إسرائيل على الجبهتين السورية واللبنانية، وتحقّق الحلَّ العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، يصبح بمقدور لبنان التنفيذ الكامل للقرار 1559، والتوافق اللبناني حول هذا الأمر هو في غاية الأهمّية، إذ من شأنه أن ينزع عناصر التفجير من أيدي القوى الخارجية، أيّاً كانت.
لذلك، سيكون لبنان، كما قيل سابقاً، «آخر من يُوقّع معاهدة مع إسرائيل»، بينما هو أوّل من أجبر إسرائيل على الانسحاب من أراضيه المحتلة بلا قيود أو شروط، ودون مراهنة على «المجتمع الدولي» ولا على مرجعية «الأمم المتحدة»، وإنما بفعل المقاومة الشعبية البطولية ضدّ هذا الاحتلال.
هل من الممكن أن تغفر إسرائيل لمن اضّطرها للانسحاب العسكري المذلّ عام 2000 من لبنان، بعد احتلال أراضٍ فيه لأكثر من عقدين من الزمن، ثمّ لمن أفشل مغامرتها العسكرية، وحربها المدمّرة على لبنان ومقاومته عام 2006؟! أليست مصلحة إسرائيلية كبيرة حدوث انعكاسات خطيرة على لبنان «الجيش والمقاومة والشعب»، من جرّاء تداعيات الأزمة السورية، واحتمالات نتائجها السياسية والأمنية؟! إنّ إسرائيل تأمل الآن من تطوّرات الأزمة السورية، مزيداً من التفاعلات السلبية، أمنياً وسياسياً، وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل.
فمن مصلحة إسرائيل بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي، والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب، والمنذر بحروب أهلية في عموم المنطقة، والمُهمّش للقضية الفلسطينية، والمؤثّر سلباً في حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، مهما كانت خياراتها ومواقفها.