في إسرائيل نخبة حكم وسياسة وإدارة تبدو مثيرة للدهشة والفضول، لجهة قدرتها على توليف صورة مشرقة لدولة استيطانية استعمارية؛ نشأت وعاشت على غير طبيعة نشأة الدول ومعيشتها. من النواحي الشكلية، عالمنا حافل بالكيانات التي تتساوى أو تقترب من التساوي "رقميا" مع إسرائيل، لجهة الحجوم والمعطيات، والجغرافيا والعوامل السكانية والاقتصادية، ومستويات التعليم والتطور التقني ونحو ذلك. أما موضوعيا، فإن هذا العالم يخلو تماما من دولة تعاني ما تعانيه إسرائيل، أمنيا واجتماعيا وسياسيا ونفسيا...
بسبب طبيعتها العدوانية التوسعية وكم الاستحقاقات التاريخية والقانونية والسياسية المطلوبة منها، وجملة الجرائم المعلقة في ذمتها، تحشد إسرائيل زهاء 15% من مواطنيها اليهود لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية. وهذا معدل لا نظير له بين المجتمعات السوية.. ولا مثيل أيضا لنموذج ديمومة الإسرائيليين قيد الاستدعاء الطارئ لهذه الخدمة، إلى الخامسة والخمسين من أعمارهم، أي إلى مشارف مرحلة الشيخوخة أو ما بعد سن الكهولة بنحو 15 عاما.
وليس ثمة دولة تشبه في إحداثياتها ومعطياتها، من حيث الشكل أيضا، ما تتصف به إسرائيل، بينما يتكدس فيها السلاح بالكمية والنوعية التي نجدها في الدولة.
إلى ذلك، تتفرد إسرائيل وتظهر كاستثناء وبدْع من الدول، على صعيد التركيبة السكانية المتوافدة من مئة مجتمع أو يزيدون.. هذه التركيبة التي يتحدث عناصرها بأكثر من لسان ولهجة، وينتمون في أصولهم إلى مرجعيات حضارية بالغة التنوع الذي ينحدر إلى مستوى التنافر.
ذات مرة، طعن مستوطن إسرائيلي قديم مستوطنا آخر حديث العهد بالقدوم من آسيا الوسطى، لأن الخلاف اللغوي بينهما جعل الأول يظن أن الثاني يشتمه ويسخر منه. وفي واقعة أخرى، اشتكت مستوطنة فلاشية سوداء البشرة، من أن سائق حافلة عامة لعن الساعة التي رأى فيها أمثالها في البلاد. وشيوع أنماط من سلوكيات التنابذ العنصري بين يهود الدولة، على غرار هذه الحادثة، كان سببا في نشوء جمعية الدفاع عن حقوق يهود الفلاشا.. وقس على ذلك.
ثم إن إسرائيل تقع في طليعة الدول التي يتفشى فيها الفساد السياسي والمالي والإداري، وعصابات السطو المسلح ومافيات المخدرات والدعارة وتجارة الرقيق الأبيض.. بما جعل القوم هناك لا يأمنون على أنفسهم من أنفسهم في مدنهم بعد غروب الشمس، على نحو يساوي غياب شعورهم بالأمن من الجوار الإقليمي الخارجي.
ومع كل هذه الموبقات ونحوها، يطلع على الناس استطلاع للرأي، أجرته صحيفة "إسرائيل هايوم" بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لإعلان الدولة، ليزعم ما لا يمكن لمتابع عاقل محايد أن يهضمه.. فهو يقول بأن 93% من مواطني إسرائيل يفخرون بإسرائيليتهم، وأن المزاج العام فيها متفائل ومنشرح، وأن 80% من مواطنيها اليهود يفضلون العيش فيها وراضون عن "إخوانهم الإسرائيليين"، مقابل 9% يتأففون منها ويتمنون مغادرتها.
وعلى الرغم من العزلة السياسية التي تعاني منها إسرائيل، فإن 3% فقط يشعرون بالقلق من هذه الحقيقة(!)، وهذه نسبة تعد محدودة، إذا علمنا من الاستطلاع أن 13% من الإسرائيليين تقلقهم حوادث الطرق. ويجتهد الاستطلاع في طمأنة الإسرائيليين إلى قوة الوشيجة التي تربط ذات بينهم، حين يقرر أن 65% منهم يقدمون أنفسهم كيهود أولا، ثم كإسرائيليين تاليا. الأمر الذي يشي باستمرار عقلية صناعة الآصرة القومية على أسس دينية، تلك البدعة الصهيونية القحة التي لا سلطان عليها من الفكر القومي على الصعيد العالمي. تصفيف البيانات والمعدلات في هذا الاستطلاع على قياس النخب الصهيونية الحاكمة وأهوائها، مسألة واضحة. والقصد هو تثبيت أقدام المستوطنين، وطمأنتهم إلى صحة مشروعها الكياني وعافيته؛ الذي تعلم يقينا أن نتائجه النهائية ما زالت في علم الغيب، وأن التاريخ لم يقل كلمته النهائية في مصيره بعد.
كيف نوقن بأن الإسرائيليين منشرحون ومقبلون على الحياة، وبين أيدينا استطلاعات أخرى أجرتها دوائر أوروبية مختصة، مثل محطة بي بي سي بالتعاون مع جامعة ميريلاند (فبراير الماضي)، تثبت أن لإسرائيل صورة بالغة السلبية والانحطاط لدى الرأي العام في 22 عاصمة كبرى؟ وما الذي يجعلنا نصدق أن الإسرائيليين سعداء بالعيش في دولتهم، وهي التي استقبلت في العام 2011 زهاء 19 ألف مهاجر، وهو ما لا يزيد عن خمس من كانت تستقبلهم في العام الواحد قبل عقدين، علما بأن ثمة 8 آلاف مستوطن غادروها إلى الأبد في العام المذكور؟
ومن المفارقات أن ما تصح تسميته باستطلاع الطمأنة لصحيفة "إسرائيل هايوم"، ينطوي على شيء من التناقض، عندما يشير إلى أن 93% من الإسرائيليين يعتزون بدولتهم ويفاخرون بمواطنتها، في الوقت الذي يورد أن 17% منهم لا يفضلون العيش فيها، ولا يزيد متوسط الرضى العام عنها بينهم عن 72%!
ترى كيف يتأتى لنا فهم ما يعتمل في جوارح أصحاب هذه النفسيات المأزومة والخيارات المرتبكة؟!