من يقول إن أميركا اختارت دعم الربيع العربي لا يعرف شيئاً، فواشنطن تفضل دائماً دعم الديكتاتوريات ".. هكذا تحدث عالم اللسانيات الأميركي الأشهر نعوم تشومسكي في مقر الجامعة الأميركية بالقاهرة الأيام القليلة الماضية، عقب زيارته لقطاع غزة السجين.

تشومسكي يأخذنا إلى تساؤل مثير " هل واشنطن بالفعل تريد للعرب ديمقراطية حقيقية تتسق مع المعايير والمقاييس الدولية ؟ أم أنها تسعى لديمقراطيات اصطناعية تخدم الأهداف الاستراتيجية الأميركية؟"

ذهب تشومسكي إلى أن الإدارة الأميركية الحالية ليست متحمسة على الإطلاق لدمقرطة العالم العربي ".

وأن واشنطن باتت تدرك اتجاهات الرأي العام في الشارع العربي ولهذا فإنها لن تقدم أبدا على مساعدة أولئك الذين يريدون بناء نظام حكم ديمقراطي سليم، ذلك انه لو حدث لن يصب في خانة خدمة مصالحها.

يعود بنا تشومسكي إلى أبجديات التخطيط السياسي والاستراتيجي الأميركي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، فقد كان هناك مخطط أميركي للتحكم في معظم العالم، لكن في عام 1949 خسرت أميركا الصين، ولهذا باتت واشنطن تسعى للتعاون مع أي ديكتاتوريات في المنطقة تتماشى سياساتها مع مصالح واشنطن الاستراتيجية، وكذلك مع أي دول لها منهجية أصولية في الحكم.

هل يحمل تحذير تشومسكي رسالة مبطنة تكشف إمكانية قيام تحالفات بين قوى أصولية عربية داخلية لا تغيب عن ناظري القارئ المحق والمدقق وبين الإدارات الأمريكية المتعاقبة؟

الإشارة هنا تتناول ولا شك حديث التحالفات الخفية بين إدارة اوباما والإخوان المسلمين في مصر أثناء وبعد 25 يناير، وقد بلغت الشكوك مبلغاً أدى إلى طرح هذه القضية للمناقشة داخل أروقة الكونجرس.

تشومسكي " اليهودي العادل " دائماً ما يشير في كتاباته إلى ان الولايات المتحدة في الواقع واحدة من أكثر الثقافات الأصولية الدينية تطرفاً "، ويذكرنا بأن الراديكاليين الإسلاميين على نحو خاص وفي ثمانينات القرن المنصرم كانوا المفضلين لدى الولايات المتحدة حيث كانوا - على حد تعبيره القاسي - أفضل قتلة يمكن العثور عليهم في تذكير باستقبال مقاتلي طلبان في البيت الأبيض زمن رونالد ريجان.

والمثير انه في سنوات الثمانينات كانت الكنيسة الكاثوليكية من ألد أعداء أمريكا ذلك أنها ارتكبت خطيئة عظمى في أميركا اللاتينية بتبنيها مبدأ " الفرص التفضيلية للفقراء " وقد جعلتها تلك الخطيئة تعاني كثيرا، لقد كان الغرب يتبع نهجا مسكونيا في اختيار أعدائه، ولكن المعيار هو مدى الخضوع للقوة وخدمتها وليس الدين.

هل من مثال حقيقي أخر عطفا على طالبان يوضح عمق ما طرحه تشومسكي مؤخرا ؟

خذ إليك مثال اندونيسيا، أكثر الدول الإسلامية شهرة وقد كانت الصديق المفضل للولايات المتحدة منذ إن استولي سوهارتو على الحكم في عام 1965، وقتها ارتكب الجيش مذابح ضد الآلاف من المزارعين. المذابح ارتكبت بمساندة من الولايات المتحدة وصاحبها هتافات هستيرية من الغرب. ورغم ذلك بقي سوهارتو " الصبي الطيب " كما أطلقت عليه إدارة الرئيس كلينتون، في الوقت الذي يظل فيه سوهارتو صاحب أسوأ سجلات مجمعة للمذابح والتعذيب والممارسات القمعية الأخرى في نهاية القرن العشرين.

الأمر نفسه ينسحب على الخطط الأميركية الجهنمية تجاه قارة أميركا اللاتينية، والتي هي كاثوليكية بامتياز، فقد قادت واشنطن حربا كبرى في وسط أمريكا اللاتينية تاركة وراءها نحو 200 ألف معذب وأضعاف هذا الرقم من الجثث المشوهة وملايين المشردين والأيتام وأربع دول مدمرة، ولم يكن من هدف إلا كسر الإرادة الوطنية للمؤسسة الكاثوليكية التي تطلعت إلى تبني نظام الحلول الأفضل للفقراء الذي يقود لاحقا وعبر خطوات منطقية وعقلانية لديمقراطية حقيقية لا لتحالفات خفية تحتية أول ما تصيب في مقتل الحريات الحقيقية الداخلية.

دمقرطة العرب فعل تحد محسوس وملموس، وواشنطن ابدا ودوما تتبنى المزيد من وسائل التدمير المخيفة والمزيد من وسائل الهيمنة من أجل تدمير أي تحد وإن كان بعيدا وسحقه مباشرة، هل نفهم من هذا القول لماذا دعا تشومسكي الدول العربية لاستغلال المكاسب التي حققتها دول الربيع العربي في التحول نحو الديمقراطية والحصول على حرية شعوبها؟

تشومسكي الذي لفت في تصريحاته في الجامعة الأميركية إلى لقاء غامض سيعقد الأسابيع القليلة القادمة في هلسنكي لمناقشة أوضاع الشرق الأوسط، قالها بصراحة :" أتقنوا ممارسة الحرية بعد ثورات الربيع وإلا فسوف تحدث كارثة ".

هل ننتظر ما بعد هلسنكي لتقسيم المزيد من المقسم وتجزئة بقية المجزأ من جديد ؟

شكراً لتشومسكي في كل الأحوال فهو " كلمة حق عند سلطان ظالم " ولكن لن نمل من القول إن " طرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات وليس من الآخرين ".