اجتمعتُ منذ فترةٍ قصيرة في واشنطن مع وزير الداخلية في السلطة الفلسطينية الدكتور سعيد أبو علي، بحضور عددٍ من النانشطين الفلسطينيين في العاصمة الأميركية، وكان الحوار مفيداً لجهة تبادل الرأي حول الأوضاع الفلسطينية الراهنة، والطريق المسدود الذي وصلت إليه عملية السلام منذ توقيع اتفاقيات أوسلو. ل

كن القضية الأبرز التي هيمنت على ساعات الحوار، كانت حول واقع تشتّت الطاقات الفلسطينية في الولايات المتحدة، رغم أهمّية هذه الطاقات كماً ونوعاً، ثمّ مسؤولية السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير عن عدم الاستفادة الفاعلة من هذه الطاقات الفلسطينية، في بلدٍ تتحرّك فيه إسرائيل بشكلٍ واسع ومؤثّر عبر هيئاتٍ مختلفة للجالية اليهودية الأميركية.

وقد اقترحت في ذاك اللقاء أن تبادر منظمة التحرير الفلسطينية إلى تأسيس "رابطة الشعب الفلسطيني"، لتكون إطاراً عاماً يجمع نخب الشتات الفلسطيني في الغرب عموماً، وأميركا الشمالية خصوصاً، بشرط مسألتين: الأولى، أن يكون هدف الرابطة هو البناء التنظيمي الديمقراطي، بعيداً عن التحزّب السياسي الذي يسود أوساط منظمة التحرير، ثمّ ثانياً، تشكيل "الرابطة" من خلال الدعوة في المدن الأميركية والأوروبية لمؤتمرات شعبية فلسطينية عامّة، تنتخب ممثلين عنها لعضوية الرابطة.

وفي مرحلةٍ لاحقة، تضع هذه "الرابطة" برنامج عملها وأولويات تحرّكها، وفق الرؤى التي يتمّ الاتفاق عليها بين من يمثّلون القاعدة الشعبية الواسعة من المهاجرين الفلسطينيين.

وكان سبب اقتراحي هذا، هو ما ألمسه في الولايات المتحدة من دورٍ كبير يقوم به نشطاء فلسطينيون، لكن بمبادرات فردية، خاصّةً في مجال العمل السياسي الأميركي وفي الحملات الانتخابية، وبلا قدرة على توظيف هذه المبادرات في إطار فلسطيني واسع وشامل.

وسيكون وجود هذه "الرابطة" مفيداً، ليس فقط للقضية الفلسطينية وللمهاجرين الفلسطينيين أنفسهم، بل أيضاً لما تريد "منظمة التحرير" التركيز عليه من قضايا سياسية في الغرب وفي الساحة الأميركية خصوصاً.

إنّ ذلك لكفيلٌ أيضاً، في حال تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة، أن يجمع خلفه ومعه الكثير من الطاقات العربية الفاعلة في الولايات المتحدة. فالقضية الفلسطينية هي محور يلتقي حوله ومن أجله معظم العرب أينما كانوا.

فالعرب في الأوطان العربية منشغلون اليوم في همومٍ كثيرة؛ بعضها ذو عناوين سياسية محلّية ترتبط بطبيعة أنظمتهم الحاكمة، والبعض الآخر يدخل في دائرة الهموم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لكن بشكلٍ عام هي الآن همومٌ وطنية داخلية في صراعاتها وساحاتها، وتنعكس سلباً على معظم المهاجرين العرب، وهي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل نصف قرن، حينما كان الصراع مع إسرائيل يوحّد اهتمامات العرب أينما وجدوا، وحيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية.

فالبلاد العربية كانت آنذاك إمّا أنّها تحرّرت حديثاً من حقبة استعمارية أوروبية، أو تخوض ثورات التحرّر من أجل استقلال الأوطان عن مستعمرٍ أجنبي.

لكن كان هناك، في الحالتين، إدراكٌ عربيٌّ عام للرابط المهم بين الهمّ الوطني وبين القضية الفلسطينية، بين مواجهة المستعمر الأوروبي للأوطان، وبين مواجهة المحتلّ الصهيوني لأرض فلسطين الذي اغتصب هذه الأرض العربية الفلسطينية بفعل دعم المستعمر الأوروبي ذاته. فأي قضية وطنية عربية كانت هي قضية قومية مشتركة، والعكس صحيح.

وللأسف أصبحت اليوم قضية "التحرّر الوطني" عموماً مسألة فيها "وجهة نظر"! وهي حالة معاكسة تماماً لما كان عليه العرب قبل نصف قرن، إذ هي الآن تهميشٌ للقضية الفلسطينية، وطلب تدخّل عسكري أجنبي، ومعايير طائفية ومذهبية وإثنية، مقابل ما كان عليه الحال من مركزية للقضية الفلسطينية، وأولويّة لمعارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي، ومعايير وطنية وقومية، لا طائفية ولا إثنية.

إنّ فلسطين كانت أولاً في "وعد بلفور"، قبل تقسيم المنطقة العربية في "سايكس ـ بيكو" في مطلع القرن العشرين، أي قبل مائة عام. وفلسطين كانت أولاً في حروب "الإفرنج" قبل ألف عام، وفلسطين كانت أولاً في هدف المستعمرين الجدد في القرن الماضي، وهي أيضاً كذلك في مطلع هذا القرن الجديد.

وستبقى "إسرائيل أولاً" هي المستفيدة من واقع الانقسام الفلسطيني تحديداً، والعربي عموماً، وبما هو عليه من حال الصراع وانعدام وحدة الموقف، ومن أولويّة مصالح "الحاكمين" و"المعارضين" على مصالح الأوطان وقضاياها المصيرية.

فما أحوج الأمَّة العربية اليوم إلى "عمل نهضوي عربي شامل" تشترك فيه مجموعة من طلائعها الواعية المقيمة في بلاد العرب، مع الطاقات العربية المنتشرة في بقاع العالم، ليشكّلوا معاً روّاد نهضة عربية حقيقية متوجّبة للأوطان والأمَّة كلها وللقضية الفلسطينية المركزية، ولا نراها تتحقّق اليوم من خلال ما يحدث من متغيّرات.

فمأساة الأمَّة تكبر يوماً بعد يوم، ليس بسبب ما يحدث فيها وعلى أرضها فقط، بل نتيجة ما يخرج منها من كفاءات وأموال وأدمغة... و

لقد توفَّرت للمهاجرين العرب إلى الغرب، فرصة العيش المشترك فيما بينهم، بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي توفَّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال.

أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً، في الإطارين الفردي والمجتمعي. لذلك، فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة الآن في عملية الإصلاح العربي الحقيقي المنشود، ونرى ذلك يحدث حالياً في كل الدول العربية التي شهدت أو تشهد حركات إصلاح وتغيير.

لكن التأثير العربي في سياسات دول الغرب ما زال محدوداً، لأسبابٍ عديدة، بينها طبعاً تشرذم العرب أنفسهم وتضارب اهتماماتهم الوطنية، وضعف تمسكهم بهويّتهم العربية، وسيكون الفارق كبيراً في أعمالهم وحركتهم لو توفّر أمامهم نموذجٌ فلسطينيٌّ رائد في إطاره التنظيمي، وفي برنامجه الوطني الشامل.

وسيجد المهاجرون العرب أنفسهم معنيّين بدعم هذا الإطار الفلسطيني المقترح (رابطة الشعب الفلسطيني)، ففيه ستكون، ليس سلامة المرجعية للفلسطينيين في الغرب فقط، بل أيضاً إعادة الحيوية للقضية الفلسطينية لدى كل المهاجرين العرب.