بدأت فرنسا عملية عسكرية في مالي، ولم تنتظر قراراً من مجلس الأمن كانت تسعى إلى إصداره لكي تتدخل تحت غطاء إفريقي، أو على الأقل تساعد التدخل الإفريقي الذي كان يتم الإعداد له لكن عدم صدور قرار من مجلس الأمن أجله.
وهذا التدخل الذي جاء مفاجئاً واستبق عملية التدخل العسكري الإفريقي تحت غطاء من الشرعية الدولية، يجعل المراقب يبحث عن أسباب لهذه المفاجأة الفرنسية، خاصة وأنها جاءت بعد أيام فقط من تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في الجزائر، قال فيها إن مبدأ الشراكة هو الذي سيحكم علاقات فرنسا بدول إفريقيا، خاصة مستعمراتها السابقة.
فالحاصل أن الجماعات الموالية للقاعدة في مالي هي التي عجلت بهذا التدخل الفرنسي، لأنها أرادت أن تستبق التدخل الإفريقي، المتوقع، وأن تحدث تحولاً على الأرض تستفيد منه، سواء في عملية التفاوض التي كانت على وشك أن تتم برعاية جزائرية، أو لجعل الصراع في مناطق وسط وجنوب مالي، بدلاً من الشمال الذي تسيطر عليه، وهو ما دفعها إلى شن هجوم على وسط مالي كانت فيه على وشك السيطرة على العاصمة باماكو، وهو ما رأته فرنسا بمثابة سقوط لمالي كاملة في أيدي جماعات متطرفة طالما استهدفت المصالح الفرنسية، ورأت أن تدخلها العسكري أمر لا مفر منه للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
وحسبما ذكرت وسائل الإعلام الفرنسية، فإن قرار التدخل اتخذ في منتصف الأسبوع الماضي، عندما شنت الجماعات الإسلامية الموالية للقاعدة هجوماً كبيراً على وسط مالي، فأعطت الرئاسة الفرنسية أوامرها للجيش الفرنسي بالتدخل، لمنع وصول الجهاديين والجماعات الإسلامية إلى باماكو، وذلك بعد أن حصلت على الضوء الأخضر من الرئيس المالي بالنيابة تراوري ديونكوندا، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
والمنطقة التي تقع فيها مالي، وهي منطقة الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا في الوقت نفسه، حيوية من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لفرنسا.
ففضلاً عن إرث الماضي الاستعماري، هناك عدة آلاف من الرعايا الفرنسيين يعيشون فيها، كما أن هناك ثماني رهائن فرنسيين مختطفين منذ عام 2010 في منطقة الساحل، وذلك بخلاف المصالح الاقتصادية الكبيرة في غرب إفريقيا، وأهمها يتمثل في استخراج اليورانيوم من النيجر، والذي تديره شركة "أريفا" الفرنسية، ويزود به أكثر من ثلث محطات الطاقة النووية لشركة "أو دي أف" للكهرباء في فرنسا.
وما فعلته فرنسا هو محاولة للقفز إلى الأمام، ذلك أنها وجدت كلاً من الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية، تتردد في تنفيذ العملية العسكرية التي استعدت لها عدة دول إفريقية، ووجدت أنها أي الولايات المتحدة بدأت تنحاز إلى الرؤية الجزائرية التي رأت أن التدخل العسكري ستكون عواقبه أكثر من نتائجه الإيجابية، الأمر الذي دفعهم إلى انتظار نتائج الحل السياسي، في الوقت الذي كانت فيه التنظيمات الموالية للقاعدة تحقق نتائج على الأرض يمكن أن تجعل الوضع في المستقبل أكثر تأزماً، وهو ما دفع فرنسا للقفز إلى الإمام، وهي خطوة حققت نتائج لصالح فرنسا والعملية العسكرية دون شك.
فبعد بدء العملية أيدتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عديدة في العالم، وأعلنت عدة بلدان إفريقية وهي: توغو وساحل العاج وبنين، عن إرسال كتائب عسكرية قريباً إلى مالي، وهذا يعني أن فرنسا لا تريد الاستمرار في الصف الأول للجبهة في مالي، وإنما هي تولت بدء العملية بهدف تدمير قواعد التنظيمات الموالية للقاعدة في مالي، ثم الانسحاب الممنهج وترك المهمة للقوات الإفريقية التي كانت تستعد لبدء العملية بعد عدة أسابيع، أي بعد صدور قرار من مجلس الأمن، كان من الممكن أن يتعطل إلى شهر مارس المقبل.
ومن الأمور المهمة لفهم التدخل العسكري الفرنسي في مالي، ما يتعلق بهيبة فرنسا في إفريقيا. فخلال الفترة الماضية، مرت السياسة الفرنسية في إفريقيا بمحنة حقيقية، وبدا أنها لم تعد تستطيع الدفاع عن مصالحها أو حماية حلفائها.
وفيما يتعلق بمالي على سبيل المثال، فإن دولاً متحالفة مع فرنسا وأنظمة حليفة لها، طلبت أكثر من مرة التدخل الفرنسي أو تأمين فرنسا لتدخل إفريقي بغطاء من مجلس الأمن، ولكن فرنسا لم تقدم على أي خطوة ترضي حلفاءها، وبدا أنها مترددة ورهينة لمواقف أميركية تارة وجزائرية تارة أخرى.
ويبدو أن صانع القرار الفرنسي وجد أن التردد وعدم اتخاذ موقف، سوف يؤدي إلى كسر هيبة فرنسا في منطقة استراتيجية ولدى حلفاء تقليديين لها، فضلاً بالطبع عن أن مسار الأحداث كان ينبئ بأن مصالح فرنسا الاستراتيجية والاقتصادية ستتضرر كثيراً منها، ما دفع فرنسا في النهاية إلى اتخاذ قرار التدخل، الذي جاء كما سبق وقلنا قفزة إلى الأمام.
والذي يؤكد ما نذهب إليه، هو تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد أيام من بدء العملية، لأنه دافع عنها، وأشار إلى الرهائن الفرنسيين الذين تحتجزهم القاعدة في أكثر من بلد، وهو ما يعني أن الحرب الحقيقية هي حرب على القاعدة، وليست حرباً لتحرير شمال مالي فقط، أي أن الحرب تهدف إلى الحيلولة دون امتداد نفوذ القاعدة أكثر مما هو عليه في مناطق شمال إفريقيا والساحل الإفريقي وغرب إفريقيا، وهي مناطق متصلة جغرافياً، وتتعامل معها الجماعات الموالية للقاعدة باعتبارها كياناً واحداً.
وهذا يعني أن التدخل العسكري الفرنسي يمكن أن يكون فخاً وقعت فيه فرنسا، إذا تحولت العمليات إلى حرب صحراء كما يتوقع خبراء استراتيجيون، وهي لذلك بدأت تستعد لكي تحل محلها قوات إفريقية تفهم طبيعة المنطقة جغرافياً وطبوغرافياً، أكثر من القوات الفرنسية.