"لا يصحّ إلاّ الصحيح"، قولٌ مأثور يتناقله العرب جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ إنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المسألة بكيفية التفاصيل وليس في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحق، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعد كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر ذاتي داخل جسم الأمة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتجاه الصحيح. إنّ الانقسامات والصراعات الداخلية تحوم في أكثر من بلدٍ عربي، والمنطقة العربية تُخرَق سيادتها من قبل القوى الأجنبية..

صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخ كبير داخل المجتمعات العربية؟ ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم "الجماهير العربية"، وعن المفكرين والعلماء والإعلاميين الذين يُوجّهون عقول "الشارع العربي"؟!

فالتداعيات الجارية في أكثر من بلد عربي تحمل مخاطر وهواجس، أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو مستقبل أفضل. ولعلّ أسوأ ما في الواقع العربيّ الراهن، أنّه لا يحمل في سياق سلبياته المتراكمة ما هو مبعث أمل، ولو بعد حين. وخطورة هذا الأمر أنّه يفرز العرب الآن بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط، وآخر انفعالي يحاول التغيير لكنّه فاقد للبوصلة أو المرجعية الصحيحة!

إنّ نقد الواقع ورفض سلبياته مدخل صحيح لبناء وضع أفضل، لكنْ حين لا تحضر في مخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، تكون النتيجة الحتمية هي تسليمه بالواقع تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذّر وجود البديل! والمشكلة أكبر حينما يكون هناك عمل، لكنه عشوائي فقط أو في غير الاتجاه الصحيح.

هناك من يعتقد أن العرب لم يصلوا بعد إلى قاع المنحدر، وأنّهم ما زالت أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو "الهُويّات الإثنية"، سيكون هو ذاته، خلال الفترة المقبلة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة الآن عطشى لما هو بديل للحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.

هذه هي خلاصة تجارب الأمّة العربية نفسها في القرون الماضية، وهي أيضاً محصّلة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في النصف الأول من القرن الماضي، حربين عالميتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعات قومية وإثنية وطائفية، أكثر بكثير مما تشهده الآن المجتمعات العربية. ورغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها، واتّجهت نحو التوحّد والتكامل، متجاوزة ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات، واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق.

لكن هذا "النموذج الأوروبي" في التقاتل والتصارع أولاً، ثمّ في التكامل والتوحد لاحقاً، احتاج طبعاً إلى مناخ سياسي ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا سمح بحدوث التحوّل الكبير. فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات لممارسة ديمقراطية شكلية، لأنّها إذا لم تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، فقد تزيد الأمور تعقيداً، كما جرى في تجربتي ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.

أيضاً، فإنّ مسألة الحريات في الولايات المتحدة لم تنتعش وتزدهر في العقد السادس من القرن الماضي، إلاّ بعد فترة "المكارثية" الظالمة في العقد الخامس. ولم يصل "الأميركيون الأفارقة" إلى حقوقهم المدنية، إلاّ بعد عقود طويلة من مواجهة الممارسات العنصرية، ومن إحداث تغيير في ثقافة المجتمع الأميركي نفسه. فالدستور الأميركي العظيم يساوي بين كل المواطنين، لكن المجتمع الأميركي لم يكن ناضجاً لتقبّل فكرة المساواة بين الناس كما نصّ عليها الدستور والقوانين الأميركية.

الأمّة العربية وأوطانها، عطشى الآن لمثل هذه التحوّلات الفكرية والثقافية في مجتمعاتها، وليس فقط لتغييرات شكلية في الحكومات والقوانين. إنّ هذه التحوّلات المنشودة في المجتمعات العربية مماثلة لقيمة المياه لدى الناس، حيث تزداد قيمتها كلما اشتدّ الظمأ والحاجة إليها. لكن الأرتواء والري لا يتحصّلان بمجرد الحاجة إليهما، وإنّما بالجهد والسعي المتواصل بحثاً عن الماء، لا عن سرابه، فيما يُشبه الصحراء القاحلة.

وهناك في التراث الفكري العربي المعاصر ما فيه "خارطة طريق" من أجل الوصول إلى ينابيع الفكر السليم والقدوة الحسنة، من أجل بناء مجتمعات عربية صحّية، تستوعب اختلافاتها وتنوعاتها، وتقبل وجود "الآخر" وحقوقه ودوره المشارك كمواطن في وطن يقوم على مفهوم "المواطنة"، لا على مفاهيم "الأكثرية والأقلية". إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة، تخدم الطّامعين في هذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة، فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات.

فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الفهم الصحيح للأديان وعلى مزيج من الهويتين العربية والوطنية؟ الرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة، والعروبة تعني التكامل ورفض الانقسام، والوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية.. فأين العرب من ذلك كلّه؟

إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي ولمسألة الهُوية وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني، يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والفهم السليم للهُوية الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم! أمَّة العرب تعاني الآن من عطبٍ في الداخل، وتهديدٍ من الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب، سيهدّد هذه الأمَّة بالتحوَّل إلى أمَّةٍ مستباحةٍ أرضاً، ومتصارعة شعوباً، حتّى زمنٍ آخر يُصحَّح فيه ما هو خطأ قبل أن يتحقّق الصحيح!