كان الملفّ الفلسطيني أحد الملفّات الهامّة في برنامج الرئيس الأميركي باراك أوباما، فور تولّيه سدّة الرئاسة في 2009، وخصّص له آنذاك مبعوثاً خاصّاً هو السيناتور السابق جورج ميتشل. لكن الآن، وبعد مضيّ أربع سنوات على وجود أوباما في "البيت الأبيض"، نجد تراجعاً من إدارته عن شرط تجميد إسرائيل لكلّ أعمال الاستيطان، وتوقّفاً كاملاً للمفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية.
فمع حضور الضغط الإسرائيلي الفاعل داخل الولايات المتحدة، تكون الإدارات (الحكومات) في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية، وسلطة الإعلام.
والمعضلة هنا، أنّ الفرز لا يكون فقط بين "حزب ديمقراطي" حاكم و"حزب جمهوري" معارض، بل يتوزّع "التأثير الإسرائيلي" (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، علماً بأنّ تعثّر "البرنامج الأوبامي" ليس سببه حصراً حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي"، فهناك طبعاً "مصالح أميركية عليا" ترسمها قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية.
لكنْ هناك اختلال كبير في ميزان "الضغوطات" على الإدارة الأميركية، لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي" وغياب "الضغط العربي"، ممّا يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما أنّه "الحلقة الأضعف"!
وقد أصبحت "معادلة الضغوطات" تقوم على أنّ إسرائيل تضغط على واشنطن، فتبادر واشنطن بالضغط على الفلسطينيين والعرب. وهذا يحدث في كل مرّة يظهر فيها تحرّك أميركي جاد للتعامل مع ملفات الصراع العربي/ الإسرائيلي!
ويبدو أنّ إدارة أوباما تريد الآن تحقيق إنجازٍ سياسي في منطقة الشرق الأوسط، وتخلّت من أجل ذلك عن شرط تجميد المستوطنات، آملةً إحياء التفاوض من جديد على المسار الفلسطيني/ الإسرائيلي، لأنّه المدخل الأساس لعملية تسوية شاملة للصراع، تريدها واشنطن كجزء من ترتيب جديد للمنطقة، يعكس تفاهمات أميركية تحدث الآن مع موسكو، وتنعكس على الموقف الأميركي من إيران وسوريا، وهما دولتان لهما تأثير كبير في أوضاع العراق المنطقة، وفي مستقبل القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
ولا يمكن تحقيق استقرار سياسي وأمني في المنطقة، مع استمرار تصاعد الأحداث الدامية في سوريا واستمرار التأزّم في العلاقات الأميركية والغربية مع إيران.
كما لا يمكن تحقيق التسوية الشاملة مع إسرائيل من دون الجبهتين السورية واللبنانية، ممّا يتطلب وضع الملفّ الفلسطيني وقضاياه الكبرى على سكّة التفاوض من جديد، إضافةً إلى ما نراه الآن من تحريك للتفاوض الدولي مع إيران، ومن سعي أميركي/ روسي مشترك لإنهاء الحرب الدامية في سوريا.
هكذا هي ملامح أهداف زيارة الرئيس أوباما للمنطقة، حيث التداخل الكبير بين كل ملفاتها وأزماتها، لكن يبقى الهدف الأساس هو تهيئة المناخ المناسب لما قد تتفق عليه القمّة الروسية/ الأميركية المرتقبة. فإدارة أوباما، في عهده الثاني، تدرك أهمية أن يكون العام الجاري هو عام "الإنجازات" في السياسة الخارجية، وفي ملفات يرتبط معظمها بالتفاهمات المنشودة مع موسكو.
وهناك مؤشرات عديدة الآن تؤكّد وجود أجواء إيجابية في العلاقات الأميركية/ الروسية، آخرها إعلان وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل عن إلغاء المرحلة الأخيرة من مشروع الدرع الصاروخية الأميركي في أوروبا، والذي كانت موسكو تعترض دائماً عليه.
وتأتي زيارة أوباما للمنطقة، بينما تعاني الأوضاع العربية والفلسطينية من ضعف التأثير في القرار الأميركي وفي كل المراجع الدولية عموماً، ومن حدّة الانقسامات الداخلية العربية والفلسطينية، وغياب الرؤية العربية لمستقبل المنطقة وقضاياها المصيرية.
وهذا المزيج من سوء الأوضاع العربية والفلسطينية، لا يُبشّر بالخير من أيِّ تحرّكٍ دولي، ولا طبعاً من أي واقع حروب وأزمات، أو مشاريع تسويات. فالحروب الأهلية ساحاتها هي أرض وأوطان العرب، والتسويات الدولية غنائمها هي مقدّرات وثروات العرب.
العرب منشغلون اليوم في "جنس شياطين" حكّامهم، بينما تُخلَع أبواب أوطانهم الواحد تلو الآخر، بل إنّ أساسات بعض هذه الأوطان تتهدّم وتتفكّك لتُبنى عليها "مستوطنات" عربية جديدة، بأسماء دينية أو إثنية، كما حدث في جنوب السودان وشمال العراق، وكما يحدث بينهما وحولهما من أوطان عربية أخرى مهدّدة الآن بحروبٍ أهلية وبتفكيك كياناتها!
فالقضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة لم تعد تعني الكثير لغير الفلسطينيين من العرب، بل للأسف أصبحت أيضاً قضية "التحرّر الوطني" عموماً مسألة "فيها نظر".. فهي الآن حالة تهميش للقضية الفلسطينية، وطلب تدخّل عسكري أجنبي، ومعايير طائفية ومذهبية وإثنية، مقابل ما كانت عليه الأمّة العربية قبل أربعة عقود؛ من مركزية للقضية الفلسطينية، وأولويّة لمعارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي.
يريد أوباما نتائج إيجابية من زيارته للشرق الأوسط، لاعتباراتٍ سياسية شخصية ولمصالح أميركية، لكن يبدو أيضاً أنّ مصلحة الدولة الأميركية (بغضِّ النّظر عن الحاكم) تتطلّب الآن عملية تسوية سلمية في المنطقة، تشمل الجبهات السورية واللبنانية، وتسمح بالانتقال إلى "شرق أوسط جديد"، يسوده تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعرب، خاصّةً بعد أن جرى خلال السنتين الماضيتين إضعاف خصوم أميركا في المنطقة، وبعد التغيير الذي حصل في مصر وأدّى إلى حكم "الإخوان المسلمين" فيها بدعمٍ أميركيٍّ مشروط!
صحيح أن نتانياهو ما زال على "لاءاته" بشأن رفض الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، وإقرار حقّ العودة، وجعل القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية المنشودة، لكن ما تقدر عليه إدارة أوباما هو تكرار ما حدث في مطلع التسعينات، من ضغوط أميركية ودولية أدّت إلى انعقاد "مؤتمر مدريد"، رغم إرادة حكومة شامير آنذاك.
الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قال أكثر من مرَّة (قبل وبعد اتفاق أوسلو) إنّه يريد "بناء دولة فلسطينية ولو على شبرٍ واحد من أرض فلسطين".
وربّما يكون هذا ما ستمنحه الآن فعلاً أميركا والتفاهمات الدولية القادمة، ولن تمنعه إسرائيل! وذلك ضمن "اتفاق إطار عام" يشير إلى القضايا الكبرى في الملف الفلسطيني، دون أيّ التزام إسرائيلي محدّد بشأنها.. بحيث تتحقّق نتيجة أولية يكون فيها إرضاء للسلطة الفلسطينية وإزالة للاحتقان الموجود الآن في الشارع الفلسطيني، ومبرّرات عربية ودولية لعقد "مؤتمر دولي" جديد (قد يكون في موسكو هذه المرّة) برعاية أطراف اللجنة الرباعية، لبدء مفاوضات عربية/ إسرائيلية شاملة تستهدف توقيع معاهدات إسرائيلية مع سوريا ولبنان، وتعمل من أجل التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل.. وربما هذا يُفسّر الكثير مما يحدث الآن على الأرض العربية!