كان العرب قبل ظهور الدعوة الإسلامية، مجرّد قبائل مستقرَّة في شبه الجزيرة العربية، ثمّ جعلهم الإسلام حملةَ رسالةٍ ينقلونها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وينشرون معها الثقافة العربية عموماً، واللغة العربية تحديداً كونها لغة القرآن الكريم. ورغم سوء أشكال الحكم بعد مرحلة الخلفاء الراشدين، فإنَّ ذلك لم يغيّر من الدور القيادي للعرب في العالم الإسلامي.
ولا من الامتداد العربي (بشراً وثقافةً) إلى أرجاء كثيرة في آسيا وإفريقيا وبعضٍ من أوروبا. لكن التحديد الجغرافي لمدى الانتشار العربي حصل في مرحلة الحكم العثماني، الذي استمرَّ أربعة قرون انتهت بمحاولة "تتريك" العرب وفرض اللغة التركية على العرب أنفسهم.
الملامة على حال العرب في الحقبة العثمانية، تعود إلى تقصيرهم عن تحمّل مسؤولياتهم، وليس لجنوح الأتراك فقط، والمحصّلة كانت أنّ ضعْفَ العرب والأتراك معاً قد سهّل الغزو الأجنبي للمنطقة العربية. ثمّ ارتدّت تركيا عن هويّتها المشرقية الإسلامية، بعد أن أضحت في مطلع القرن الماضي تحت قيادةٍ تركيةٍ معادية للعرب ومستجدية للغرب الأوروبي، فخسرت بذلك هويّتها الشرقية ولم تكسب الهويّة الأوروبية.
ثمّ شرذم الغرب الأوروبي العرب إلى قطعٍ مبعثرة ومتناحرة، وأضعفهم في قوّتهم الثقافية العربية المشتركة، فَارِضاً عليهم ثقافاته الغربية المتصارعة فيما بينها، لكن المتّفقة على تحجيم الثقافة العربية، والسعي بدأبٍ للحلول مكانها في عقول العرب وعلى ألسنتهم.
جاء منتصف القرن العشرين ليحمل معه متغيّراتٍ كثيرة في المنطقة العربية، وفي العالم ككلّ. فالخمسينات كانت بدء انطلاق حركةٍ قومية عربية وسطية "لا شرقية ولا غربية"، ترفض الانتماء إلى أحد قطبيْ الصراع في العالم آنذاك، وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب.
كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافيّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية، وتعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك، قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى، كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة. لكن هذه الصحوة العربية كانت "حالةً شعبية"، أكثر منها "حالة فكرية" أو "تنظيمية".
فالشارع العربي كان مع جمال عبد الناصر "القائد"، لكن دون "وسائل سليمة" تؤمّن الاتصال مع هذه القيادة. فلم يكن هناك البناء التنظيمي المؤسساتي السليم لهذه الملايين العربية في بلدان المشرق والمغرب معاً، كما لم تكن هذه الصحوة العربية قائمةً على حسمٍ ووضوحٍ مبدئيّ، للأسس الفكرية المطلوبة لخصوصية الأمة العربية.
وكم كان محزناً رؤية العديد من القوى والحركات القومية، وهي تتصارع حول أيّة "اشتراكية" وأيّة "قومية" وأيّة "حرّية" تتبنّى كمفاهيم فكرية، أو تنتمي إليها كحركات سياسية، وكذا صراع هذه القوى والحركات حول موقفها من الدين عموماً.
ومن الإسلام خصوصاً.. والكلّ معاً في "تيّارٍ قوميٍّ واحد"! وكان في هذا "التيّار القومي الواحد" من هم ضدَّ أيّة خصوصيةٍ وطنية (أي ضدّ الاعتراف بالكيان أو القطر الوطني القائم)، مع من يتحدّثون عن "الدوائر المتعدّدة" للانتماء، كما شرح ذلك ناصر في كتابه "فلسفة الثورة" عن التكامل في انتماءات مصر للدوائر العربية والإفريقية والإسلامية.
ولأنّ القيادة الناصرية لمصر جاءت للحكم بواسطة انقلابٍ عسكريّ، دعمه فيما بعد الشعب وحوَّله إلى ثورةٍ شعبية، فإنَّ "التيار القومي" ارتبط في ذهن البعض بأسلوب "الانقلاب العسكري"، وبإعلان "البلاغ رقم 1"! فتحوّلت الأولوية من بناء الكوادر والقيادات والعمل وسط الناس، إلى أولويّة البحث عن "ضباط" والعمل وسط العسكر للوصول إلى السلطة كهدفٍ نهائيّ!
ولأنّ سمة المرحلة كانت "معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار"، فإن هذه المعارك لم تسمح كثيراً بـ"الحديث عن الديمقراطية"، خاصّةً أنَّ العالم آنذاك كان قائماً على تجربتين: التجربة الرأسمالية في الغرب.
وهي التي تقوم على تعدّد الأحزاب والحريات العامَّة مع النظام الاقتصادي الحر، مقابل التجربة "النموذجية" الثانية، وهي التجربة الشيوعية (السوفييتية أو الصينية) التي كانت ترفض أساساً وجود أي حزبٍ غير الحزب الحاكم، وتقوم على الاقتصاد الاشتراكي الموجَّه والمُسيطَر عليه من قبل الدولة.
وكان طبيعيا في البلدان العربية (ومعظم بلدان العالم الثالث)، التي تريد التحرّر من "الغرب الرأسمالي المستعمر"، أن تطلب المساندة من "الشرق الشيوعي"، وأن تتأثّر بمفاهيمه للحكم سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
تلك مرحلة قد انتهت في مصر وفي العالم، لكن سلبياتها ما زالت "حالة قائمة" في المجتمعات والمفاهيم العربية، ولم تدرك جماعاتٌ كثيرة بعد أنَّ "القومية العربية" أو "العروبة" هي هويّة أو حالة انتماء، وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته. أي لا يكفي القول "إنني قومي عربي" لأحسم موقعي أو موقفي الفكري من قضايا لها علاقة بالدين والديمقراطية، وبالواقع العربيّ الراهن.
وخلال الأربعين سنة الماضية، تفاعلت قضايا عديدة في المنطقة العربية وفي العالم، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على الهويّة العربية المشتركة فتنقلها من كبوةٍ إلى كبوة.
وقد امتزجت هذه السلبيّات مع انجذابٍ أو اندفاعٍ في الشارع العربي، إلى ظاهرة "التيَّارات الدينية والطائفية" التي دعمتها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، والتي ساهمت في أن يبتعد المواطن العربي عن "هويّته العربية"، وأن يلتجئ إلى أطرٍ سياسيةٍ وفكرية تحمل مشاريع ذات سمات دينية ـ طائفية أو مذهبية، وأن يراها كأساسٍ صالحٍ لمستقبلٍ أفضل.
لكن المشكلة أنّ هذه "البدائل" كانت ولا تزال مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفية أو مذهبية أو إثنية، إضافةً إلى توزَّعَ بعض هذه الحركات الدينية، ما بين الطرح التقليدي السلفي وبين حركاتٍ عنفية شوَّهت في ممارساتها صورة المسلمين والدين نفسه.
لذلك هناك ضرورة عربية الآن لإطلاق "تيّار عروبي توحيدي" فاعل، يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدولة المدنية وبين دور الدين عموماً في الحياة العربية، ولا تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان، وأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الديمقراطية في أساليب الحكم والمعارضة معاً.
"تيّار عروبي توحيدي" يرفض استخدام العنف لإحداث التغيير في المجتمعات، أو لتحقيق دعوته، أو في علاقاته مع الآخرين، ويميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء الأوطان المحتلَّة بالمقاومة ضدّ الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلين وخارج الأراضي المحتلة.
"تيار عروبي" يدعو للبناء السليم للمؤسسات العربية المشتركة، وللمنظمات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. "تيّار عروبي" تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وليس الانغماس في وحل الصراعات الأهلية.