ها هو الإعلام الأميركي، والغربي عموماً، يعود بعد التفجير الإرهابي في بوسطن، إلى تذكير العالم بما حدث في العقدين الماضيين من أعمال إرهابية في أميركا وفي أمكنة أخرى مختلفة، قامت بها جماعات تحمل أسماء دينية إسلامية. وهناك مقولتان تتقابلان في محاولة تفسير أسباب ظاهرة التطرّف العنفي، الذي يحصل باسم "جماعات إسلامية": الأولى.

وهي في معظم مصادرها غير عربية وغير إسلامية، تتراوح بين ربط هذه الظاهرة المعروفة الآن باسم "الإرهاب"، بغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية أو بالفقر الاجتماعي.

وبين اتهام الدين الإسلامي نفسه بأنه يُحرّض على استخدام العنف! المقولة الأخرى، وهي في معظم الأحيان من مصادر عربية وإسلامية، تعيد في تفسيرها لأسباب ظاهرة التطرّف العنفي، إلى مسؤولية الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، عن اضطرار هذه الجماعات لاستخدام أسلوب العنف المسلّح ضدّ المدنيين والأبرياء. وفي المقولتين إجحافٌ للحقيقة، وقصورٌ عن الرؤية الشاملة للواقع.

فالمقولة الأولى تحاول أن تنفي مسؤولية الغرب عن "ظاهرة الإرهاب"، وتعيد المشكلة فقط إلى الأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية، أو إلى التفسيرات الخاطئة للدين. لكن كيف يفسّر أصحاب هذه المقولة ما حدث في أوكلاهوما الأميركية (عام 1995)، من عملٍ إرهابي كانت خلفه جماعة إرهابية أميركية، رغم وجود الديمقراطية في أميركا وعدم علاقة تيموثي ماكفي بالعرب والمسلمين؟

أو أيضاً مذبحة أوسلو منذ عامين في النرويج، التي قام بها النرويجي العنصري المتطرف أندرس بريفيك؟ أو ما شهدته مدارس وجامعات ومتاجر أميركية من أعمال عنف مسلحة، راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى ولم تكن بفعل عرب أو مسلمين؟!

وكيف يفسّر الأوروبيون ما كان يحدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإسبانيا، من عمليات إرهابية قام بها أتباع لجماعات متطرّفة، وبعضها كان يمارس العنف المسلّح بطابع "وطني تحرّري"، مثل "الجيش الجمهوري الإيرلندي" في بريطانيا، وجماعات "الباسك" في إسبانيا؟!

أمّا المقولة الأخرى "الشرقية"، فهي أيضاً تحاول التملّص من مسؤولية الذات العربية والإسلامية عن بروز ظاهرة الإرهاب، وتسعى إلى تغليف الأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية بشعارات الدفاع عن الدين أو الطائفة أو الوطن! فكيف تفسّر هذه المقولة ما حدث في أفغانستان عقب سقوط النظام الشيوعي في كابول وانسحاب القوات الروسية منها.

وما حدث أيضاً من اقتتال داخلي في الصومال والجزائر في عقد التسعينات، وبين اللبنانيين خلال سنوات الحرب الأهلية، وما يحدث الآن في العراق وسوريا بأشكال مختلفة.. هناك بلا شك مسؤولية "غربية" وأميركية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكن ذلك عنصر واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.

ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري ـ العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي، مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها استخدام العنف ضد الأبرياء، أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.

إنّ التمييز مطلوب بين حالات ثلاث: التطرّف، والعنف المسلّح، والإرهاب. فالتطرّف الفكري والسياسي قد يكون مقبولاً في أي مجتمع.. أمّا استخدام العنف المسلّح فمحكوم بضوابط دينية وأخلاقية وقانونية.

ولا يجوز أصلاً الخلط بين "العنف المسلح المضبوط"، وبين أساليب "الإرهاب" من قتل للأبرياء في أي مكان. ولعلّ هذه العناصر كلّها هي المسؤولة معاً عن وجود ظاهرة الإرهاب باسم الدين الإسلامي، لكن يبقى إصلاح الفكر الديني والسياسي هو المقدّمة الأولى لبناء مستقبل أفضل، متحرّر من إرهاب الدول والجماعات..

في الداخل والخارج. ورغم أهمية كل هذه العناصر، فإنّ إلقاء الضوء على عامل آخر ربما يزيد الأمور وضوحاً. فقليلون من العرب والمسلمين يعرفون اسم "الدكتور ماركوس وولف"، الذي كان لمدّة 25 سنة مديراً للمخابرات في ألمانيا الشرقية، قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وتحطيم جدار برلين والنظام الشيوعي فيها.

الدكتور وولف "الشيوعي"، أشرف لسنوات على توجيه قيادات في جماعات كانت تعمل في دول العالم الثالث بأسماء منظمات شيوعية مسلّحة، وبعض هذه الجماعات كان على صلة بمنظمات فلسطينية مسلّحة، قامت في السبعينات بخطف طائرات مدنية وبعمليات عسكرية في أوروبا.

وعندما سقط النظام الشيوعي في برلين، حاول الدكتور وولف (اليهودي الأب) اللجوء إلى إسرائيل والعيش فيها، ثم تبيّن أنه كان على علاقة وطيدة بالمخابرات الإسرائيلية خلال فترة عمله مديراً لمخابرات ألمانيا الشرقية..

وكثيرون من العرب يذكرون حجم الضرر الذي لحق بالمقاومة الفلسطينية وبمنظمة التحرير الفلسطينية، نتيجة العمليات العسكرية التي جرت خارج الأراضي المحتلة وضدَّ المدنيين في أوروبا، وكيف تحوّلت "منظمة التحرير" في نظر العديد من الأوروبيين، من حركة تحرير وطنية إلى منظمة إرهابية..

فهل كانت صدفةً أن يتزامن لصق تهمة الإرهاب، التي جرت في التسعينات، بالعرب والمسلمين في العالم كلّه، وليس بالغرب وحده، مع خروج أبواق التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في كلّ البلاد العربية؟!

في غياب المشاريع الوطنية الجادّة والمرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة، ليس فقط أمام الاحتلال الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية. وفي غياب المفاهيم الصحيحة للمقاصد الدينية، والقصور في شرح مضامينها السليمة، يصبح سهلاً استخدام الدين لتبرير العنف المسلّح ضدَّ الأبرياء، ولإشعال الفتن المذهبية والطائفية.

فلِمَ هذا الانفصام في الشخصية العربية والإسلامية، بين الإجماع على المصلحة الإسرائيلية في إثارة موضوع "الخطر الإسلامي" القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، وبين الواقع السائد في مجتمعات الدول العربية والإسلامية من ممارسة العنف المسلّح الذي تقوم به جماعات تحمل أسماء إسلامية؟

فأيُّ شريعةٍ دينية تحلّل قتل الأبرياء وهدم وحدة الأمّة والمجتمع؟ وأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر كيف أنّ هناك هدنة الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف الطائفي والمذهبي المسلّح داخل عدّة دول عربية؟!

يبدو أن استنساخ ماركوس وولف "الشرقي الشيوعي"، يحصل الآن في "الشرق الإسلامي"!