مقارنةٌ خاطئة جرت في الفترة الماضية بين ما حدث في مدينة بوسطن من تفجير إرهابي، وما حدث في 11 سبتمبر 2001. فبعض التحليلات تساءل عمَّا إذا كانت إدارة أوباما ستكرّر ما فعلته الإدارة السابقة من حروبٍ خارجية، بحجّة ملاحقة الإرهاب والإرهابيين.
وما إذا كان ما حصل في بوسطن سيكون مقدّمةً لتغييراتٍ في السياسة الأميركية الحالية تجاه خصومها الدوليين، كإيران وكوريا الشمالية وسوريا. وترافق الفعل الإجرامي في بوسطن مع تصاعد وتيرة الحديث عن استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، بحيث اعتقد البعض أنّ المنطقة داخلةٌ على حربٍ إقليمية واسعة، وعلى تدخّلٍ عسكريٍّ أميركي مباشر في الأزمة الدموية السورية.
ورغم الضجيج الإعلامي والسياسي الدولي، فإنّ إدارة أوباما تعاملت بحنكة جيّدة مع الأمر، ولم تقع في ما يمكن اعتباره فعلاً مكيدةً إسرائيلية استهدفت إعادة توريط الولايات المتحدة عسكرياً في المنطقة.
بحيث تسود الأولوية التي طالب بها نتانياهو منذ وصوله للحكم مطلع 2009، بأن تكون المواجهة العسكرية مع إيران هي الأولويّة، وأن لا تكون هناك أولويّة في المنطقة للملف الفلسطيني. وشاءت الظروف مجدّداً أن يعود أوباما للبيت الأبيض، مع عودة نتانياهو للحكم بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
لكن مهما جرى طمس عناصر الاختلاف بين رؤيتيْ كلٍّ منهما لصراعات وحلول الشرق الأوسط، فإنّ التباين الجوهري حاصلٌ بينهما. والمسألة ليست تحليلاً ينطلق من "نظرية المؤامرة"، بل هي وقائع على الأرض موجودة منذ منتصف التسعينات، حينما صاغ نتانياهو بمعيّة عددٍ من السياسيين الأميركيين ما عُرف ونُشر باسم: Clean Break وهي وثيقة: «الانفصال عن الماضي: استراتيجية جديدة لتأمين الأمن»، التي صاغها عام 1996 ثمانية من كبار "المحافظين الجدد".
والذين تولى بعضهم مسؤولياتٍ كبيرة في الإدارة الأميركية السابقة، وكان لهم القرار في الحرب على العراق، وفي إطلاق مقولة "الحرب على الإرهاب" في العالم الإسلامي. فالحرب على العراق لم تكن تدميراً لدولة عربية كبرى فقط، بل إشعالاً أيضاً لموجةٍ من الصراعات الطائفية والمذهبية، امتدّت تفاعلاتها، ولا تزال، إلى كلّ محيطها الإقليم.
لقد ضغطت إسرائيل على إدارة أوباما بأشكال مختلفة خلال السنوات الأربع الماضية، من أجل دفعها إلى الخيار العسكري مع إيران. لكن ما نجح فيه نتانياهو، ومن معه في أميركا من قوى ضغطٍ فاعلة، من تهميش "الملف الفلسطيني"، لم يمكن سحبه على "الملف الإيراني".
فعسكرة الخلاف الأميركي مع إيران هي مواجهة مرفوضة الآن على المستويات العسكرية والأمنية وفي دوائر صنع السياسة الخارجية الأميركية، بسبب المحاذير العسكرية والأمنية.
وارتباطه بالعلاقات الأميركية مع روسيا والصين والهند، وهي دول ترفض اعتماد الوسائل العسكرية مع طهران، إضافةً إلى رفض عدّة دول أوروبية لمثل هذا الخيار، لأنّه سيعني تورطاً لها أيضاً وأزمة طاقة خانقة لشعوب أوروبا، وسيؤدّي إلى مزيدٍ من الانهيار الاقتصادي لبعض دولها.
وقد راهنت إسرائيللا- نتانياهو أيضاً على أنّ تصعيد الأزمة مع إيران والمواجهة العسكرية لها، ولحلفائها في المنطقة، سيوجد مناخاً من الصراعات الداخلية في عدّة بلدان عربية، ممّا يُشعل حروباً أهلية عربية وإسلامية تفكّك أوطاناً وتدعم المشروعَ الإسرائيلي للمنطقة، العاملَ على إقامة دويلاتٍ طائفية وإثنية تحكمها "الإمبراطورية الإسرائيلية اليهودية"، التي تبحث الآن عن الاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية".
هذه "وقائع" إسرائيلية، عبّر عنها نتانياهو بوضوح، في كلمته أمام الكونغرس الأميركي إبّان زيارته الأخيرة لواشنطن، ونال تصفيقاً حادّاً عليها، حينما تحدّث عن لاءاته: لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة لحدود 1967، لا لوقف الاستيطان.
ولا لتقسيم القدس التي ستبقى العاصمة الأبدية للدولة "اليهودية". كما أشار نتانياهو إلى الآمال التي تضعها حكومته على حركة الشارع العربي: "الذي لم يعد يتظاهر ضدّ إسرائيل، بل ضدّ حكوماته المحلية". فالمشروع الإسرائيلي ما زال يراهن على صراع عربي/ إيراني في "الخارج الإقليمي".
وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية في "الداخل العربي"، فهذا وحده ما يصون "أمن إسرائيل" ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، ويجعل "العدوّ" للعربي هو العربي الآخر، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، ويجعل الثورات العربية الحاصلة قوّة تغييرٍ وإسقاطٍ لكيانات ومجتمعات، لا لحكوماتٍ وأنظمةٍ فحسب!
وما أشرت إليه في البداية عن التفجير الإرهابي في بوسطن، لا أراه بعيداً أيضاً عن تاريخ "الموساد" مع جماعات وأفراد كانوا يخدمون في دول ومنظمات خصمة للغرب وإسرائيل.
كما كان تاريخ "ماركوس وولف" في قيادة المخابرات بألمانيا الشرقية لعقودٍ من الزمن، فمن هو "وولف الإسلامي" في الشيشان الذي أقنع "تامرلان" بالتفجير في بوسطن؟! وهل كان صدفة أيضاً استخدام اسم "ميشا" في فترة ماركوس وولف واستخدامه الآن في البحث عن العقل المدبّر لتفجير بوسطن؟! ربّما نعرف الإجابة بعد عقودٍ من الزمن.
أعتقد، وأرجو أن أكون صائباً، أنّ إدارة أوباما لن تقع في الأفخاخ المنصوبة لها من أجل التخلّي عن "نهج التسويات"، وعن السعي للوصول مع موسكو والصين إلى تفاهمات تشمل سوريا وإيران وكوريا الشمالية، وأيضاً إمكانية عقد مؤتمر دولي بشأن الملف الفلسطيني. فالمصالح الوطنية الأميركية في هذه المرحلة، تتطلّب السّير في هذا الاتجاه.
هناك الآن فرصة لتسوية سياسية للملف السوري، تعتمد التنسيق الأميركي، لا المواجهة، مع القطبين الروسي والصيني، لكنّها تسويات ستحلّ مشاكل العلاقة بين الأقطاب الدوليين، وليس تغيير واقع الحال المؤسف بين الشعوب العربية وما ينتشر فيها من وباء سرطاني تقسيمي، ما زال علاجه ينتظر قوّة المناعة في الجسم العربي.