في السجال بين الحكومة التركية والأحزاب القومية المتشددة، حول التعاطي مع المبادرة التي قام بها عبد الله أوجلان مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني، والتي تقوم على إلقاء السلاح وترك المناطق في جنوب شرق الأناضول، تتهم هذه الأحزاب الحكومة بأنها ستجعل من أوجلان نيلسون مانديلا الحركة الكردية.
يزيد من ذلك أن حزب العدالة والتنمية الحاكم، قرر زيارة الرئيس السابق لجنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، للاستعانة بخبرته في تسوية نزاعات أهلية، وهو ما زاد من الاتهامات التي وجّهها حزب «الحركة القومية» القومي، إلى الحكومة بأنها تحوّل أوجلان إلى مانديلا ثانياً ليصبح بطلاً قومياً للأكراد، خاصة وأنه لا يستبعد إطلاق سراحه بعد تنفيذه بنود الاتفاق مع الحكومة.
والحقيقة أنه ليس هناك أي تشابه بين كل من نيلسون مانديلا وعبد الله أوجلان، حتى تجربة السجن مختلفة، سواء في ما يتعلق بالأسباب التي دفعت الحكومة إلى سجنه أم الفترة التي قضاها أي منها محبوسا. وهذا الأمر يجعل فرضية أن يصبح أوجلان مانديلا الحركة الكردية، لا تدخل إلا في متطلبات السجل السياسي بين الحكومة التركية والمعارضة، ولكن الذي يعطيها قيمتها هو الزيارة التي يقوم بها عناصر من الحزب الحاكم لمانديلا، للاستعانة بخبرته في إحلال السلم الأهلي، وكلتا الحالتين مختلفتان أشد الاختلاف، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن الزيارة تستهدف الاستعانة بخبرة مانديلا في أمر آخر تماما، قد تكون له علاقة بالعدالة الانتقالية أو التعامل مع الحكومات الغربية بعد إحلال السلم الأهلي.
وإذا كان أوجلان قد طرح مبادرة ويشرف حاليا على تنفيذها، حيث تؤكد كافة التطورات أنه كلما ظهرت مشكلة قد تعرقل تنفيذ خطة السلام التي أعلنها الزعيم الكردي من سجنه، تُسرّب الحكومة أنباء عن تجاوز العقبة، من خلال جولة مفاوضات جديدة بينه وبين رئيس جهاز الاستخبارات التركية. كذلك تسربت أنباء عن أن أوجلان وافق على التوجّه إلى مسلحي حزبه، طالباً منهم الانسحاب وإلقاء سلاحهم، عبر رسالة خطية أو صوتية.
وأشارت التسريبات إلى أن التفاهم بين أوجلان والحكومة، يقضي بالبدء الفوري لانسحاب عناصر حزب العمال الكردستاني، بحيث يتم إنجاز ذلك كاملا في نهاية شهر يونيو المقبل، وأن يسلكوا طرقات مُتفقاً عليها لئلا يصطدموا بأجهزة الأمن أو الجيش، وأن يُنفَّذ انسحابهم ليلاً لتجنّب مواجهة مع أجهزة الأمن أو مدنيين أو عسكريين.
والأمر الأكيد أنه حتى من دون أن يطرح أوجلان مبادرته الأخيرة، فإنه بالنسبة للأكراد، ليس في تركيا فقط وإنما في معظم الدول التي يعيشون فيها، وحتى لدى أكراد المهجر الذين يعيشون في أكثر من دولة أوروبية، أصبح زعيما قوميا، ليس الآن فقط وليس مع إعلان القبض عليه ومحاكمته وسجنه، وإنما منذ أن أسس حزب العمال الكردستاني، الذي يتبنى الإيديولوجية اللينينية الستالينية عام 1984. فهذا التأسيس بلور لأول مرة كفاح الأكراد من أجل الحصول على حقوقهم السياسية والثقافية، وحقهم في أن يعيشوا في مناطق تحظى باهتمام من الحكومات المركزية في ما يتعلق بالتنمية.
وإذا كان الحزب قد تبنى أسلوب العمل المسلح، فلا بد من أن نضع في الاعتبار أنه لم يكن وحيدا، بل كانت هناك حركات متعددة على مستوى العالم تتبنى هذا الأسلوب، وقد انتشرت من أوروبا حيث الجيش الجمهوري الإيرلندي، إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث الحركات التي كانت تسعى للحصول على حقوق في الأرض أو الاقتصاد أو الثقافة، وكان ذلك في فترات الحرب الباردة، حيث كانت الدول الكبرى تمارس الحرب بالوكالة عبر الحركات المتعددة أو الدول التي كانت تسير في ركاب هذه القوة الدولية أو تلك، وكان تبني الإيديولوجية الماركسية اللينينية بالنسبة للعمال الكردستاني، فقط من أجل تأمين دعم دول المعسكر الشرقي، وليس كإيديولوجية يتبناها الأكراد.
وإذا كان أوجلان قد طرح مبادرته، فذلك لأنه يدرك جيدا أن الوضعين الإقليمي والدولي اختلفا تماما، ولم تعد لديه الآن خيارات ولا مرونة في الحركة، فقرر أن يحفظ ماء وجهه ولا يترك حزبه فريسة لتطورات غير مسيطر عليها، خاصة وأن سوريا وهي الداعم الوحيد له حاليا، تمر بأزمة قد تطيح بالنظام، وعندها سيصبح الحزب ضحية لأي نظام جديد يسيطر على سوريا، بل ويمكن أن يقدم الأكراد ككبش فداء لسقوط النظام السوري.
وهذه القراءة للوضعين الدولي والإقليمي، هي الكفيلة بأن تجعل من أوجلان زعيما قوميا للأكراد، وهي القراءة التي انتهت إلى المبادرة التي تحفظ ماء وجهه، وتحول دون أن يدفع أكراد تركيا تكاليف سقوط النظام السوري، وانتهاء الحرب الباردة في الفترة المقبلة.
ومن الاختلافات المهمة بين مانديلا وأوجلان، أن الأول أشرف بنفسه من خلال تولية منصب رئيس جنوب إفريقيا، على عملية الانتقال من النظام العنصري إلى النظام الديمقراطي التعددي، وذلك من دون تكاليف اجتماعية أو سياسية كبيرة، بل وكانت شخصيته الكاريزمية هي التي دفعت السود إلى التسامح مع البيض، ونسيان تاريخ طويل من الاضطهاد والتمييز العنصري ضدهم.
وهذا الأمر لن يتاح لعبد الله أوجلان، لأنه لن يتولى أي منصب رسمي في تركيا، أو حتى في المناطق التي يعيش فيها الأكراد، وهناك صعوبة في أن يعيش في تركيا إذا ما تم الإفراج عنه، حسبما يتوقع معظم المراقبين للشأن التركي، بعد إنهاء عمليات الكردستانى في جنوب شرق الأناضول تماما.