هل ما يحدث الآن على الأرض العربية هو فقط متغيّرات سياسية محلية، تتدخّل فيها وتتجاوب مع تفاعلاتها قوى إقليمية ودولية؟ أم أنّ هذه المتغيّرات مجرد قطعة من صورة مرسومة مسبقاً لتغيير جغرافي وديمغرافي منشود لدول عربية عديدة؟ ألم تكن الحرب على العراق عام 2003، وما أفرزته من واقع حال تقسيمي للدولة والشعب والثروات.
وما مثّلته من تداخل بين الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كافية لتكون درساً مهمّاً للعرب من أجل تحسين نظم الحياة الداخلية في مجتمعاتهم وتحصينها ضدّ التدخّل الخارجي؟! ثمّ ألم يكن درس تقسيم السودان مطلع 2011 مؤشّراً عن المصير المرغوب لأوطان عربية أخرى؟!
يصرّ الآن بعض "الثوار العرب الجدد" على الحديث فقط عن المسألة الديمقراطية وتغيير "أنظمة الاستبداد"، بمعزلٍ عن قضايا أخرى هامّة، تتّصل بحاضر الأمَّة وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي/ الصهيوني، وهي فاعلة في كلّ ما تشهده المنطقة الآن من تطّورات، أو حتّى قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويات فئوية ضيقة، تُمهّد لمرحلة الدويلات الطائفية والإثنية.
حبّذا لو يُدرك "الثوار العرب الجدد"، أنّهم بذلك يعيدون فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي، ولإعادة حقبة "المستعمرات العربية" التي أسقطتها ثورات تحرّرية حقيقية في منتصف القرن الماضي، بعد عقود من النضال الوطني. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل أوطانها وشعوبها، وأدّت إلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما "الثوار الجدد" ينفخون في بوق التدخّل الأجنبي، ويدعون جهاراً لعودة القوى العسكرية الغربية، التي كانت تحتل الأرض العربية وتستنزف ثرواتها!.
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين، لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في صنع القرار. ولذلك كان سهلاً حدوث التدخل الخارجي في القضايا الداخلية العربية، وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمة مشتركة بين عدّة بلدان عربية، أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل، ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
فما يحدث الآن في مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقود طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن، هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية"، حيث إنّ الحرّية هي "حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً"، ولا يجوز القبول بإحداهما بديلاً عن الأخرى.
كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين "لقمة العيش" وبين حرّية "تذكرة الانتخابات". وكم يكون حجم المأساة كبيراً، حينما يعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين الحرية، أو حين تجتمع عندها حكومات تفرض "الخوف والجوع" معاً، في ظلِّ هيمنة أجنبية ومعاهدات مقيّدة للقرار الوطني.
فما حدث من اقتلاع مصر من دورها الريادي العربي والأفريقي والإسلامي، حينما جرى توقيع المعاهدة المصرية/ الإسرائيلية، كان ولا يزال، مصدر الخلل الكبير الذي تعيشه الأمَّة العربية منذ أربعة عقود تقريباً، وتصحيح هذا الخلل، هو الأساس لأي تغيير عربي إيجابي منشود في عموم المنطقة. ما عدا ذلك، يكون أشبه بمنشّطات تزيد إلى حدٍّ ما قدرة الجسم العربي العليل على مقاومة أمراضه، لكنها لا تشفيه من أخطرها، وهو ما حدث ويحدث في قلبه المصري.
وبملاحظة ما يحدث الآن على الأرض العربية، نجد أنّ الشعوب عموماً تعاني حالات سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية، بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد. وهذا الانقسام الطائفي والإثني يتمّ التشجيع عليه محلياً وإقليمياً ودولياً، ويسبح في أوحاله إعلاميون وسياسيون ورجال دين ومثقفون، ولأغراض ودوافع مختلفة.
أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو أيضاً عنصر فاعل في إحداثها، أو في توظيفها واستثمارها. وهذا الدور الخارجي يجمع، على امتداد قرن من الزمن، بين إسرائيل ودول كبرى، حتّى في القضايا العربية الصغرى. فكم هو جهل مطبق الآن استبعاد الدور الإسرائيلي في تفاعلات داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية.
وكم هو تشويه للحقائق حينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى في تفتيت أوطانهم، وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعار كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) "حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي".
ثم كم هو نكران لوقائع حدثت في حروب أهلية عربية معاصرة، كالحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الدور الإسرائيلي فاعلاً فيها على مدار 15 سنة، ثم استمر بعد ذلك عبر عملاء على كل الجبهات السياسية اللبنانية.
هذه الفتن الداخلية العربية الجارية في أكثر من زمان ومكان، هي حلقة متصلة بسلسلة الصراع العربي/ الصهيوني على مدار مئة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرن من الزمن تنفيذ "وعد بلفور" بإنشاء دولة إسرائيل، دون تقطيع للجسم العربي وللأرض العربية.
حيث تزامن الوعد البريطاني ـ الصهيوني مع الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي المعروف باسم "سايكس - بيكو"، والذي أوجد كيانات عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي، وبين الصراع العربي/ الصهيوني.
ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتحاد أو تكامل عربي، وبين الصراع العربي/ الصهيوني. ويبقى السؤال قائماً، ليس فقط عن مدى وعي الشعوب العربية وقياداتها الفاعلة بما حدث ماضياً، وبما يحدث حاضراً، وبما قد يحدث مستقبلاً، بل أيضاً عن مدى التوافق بين المصالح الأميركية الغربية، وبين هذا الحلم الصهيوني المتجدد؟!