بعد رحيل مارغريت تاتشر التي حكمت بريطانيا 12 عاماً، كان هناك شبه إجماع لدى الذين تحدثوا، في المناسبة، على أن هذه السيدة، التي وصفت بالمرأة الحديدية، قد تركت بصمتها على بلدها، إذ هي غيرت وجه الحياة في بريطانيا، كما تركت أثرها في السياسة العالمية، بعد أن قادت مع حليفها الأميركي رونالد ريغان الموجة الليبرالية الجديدة. كانت بريطانيا في طور التراجع، قبل مجيء تاتشر التي عرفت كيف تنهض بها وتعيد لها مكانتها في أوروبا، بفضل جرأتها وعقلها القيادي وحدسها السياسي.
ومن أطرف ما قرأته في هذا الخصوص، كلام للفرنسي جان كلود سيرجنت الأستاذ في جامعة السوربون، والاختصاصي في الشؤون البريطانية، يقول فيه إن تاتشر لم تكن صاحبة عقيدة اقتصادية، بل حكمت بريطانيا بعقلية ربّة المنزل، بقدر ما كانت تؤمن بأن على كل مواطن أن يتولى أمره بنفسه. وبالمقارنة كانت فرنسا في وضع تُحسد عليه، من حيث نموذجها الاقتصادي والاجتماعي، إذ كان الأفضل في أوروبا، من حيث توزيع الثروات ونظام الخدمات.
ولكن هذا النموذج قد استنفد ولم يُتَح لبلد الثورة والأنوار حكّام يعملون من أجل تجديده، فاليمين كان يعتبر التغيير أمركةً، واليسار يعتبره ضد التقدم الاجتماعي. وما زالت فرنسا تعاني من عجزها حتى الآن، قياساً على ما حققته بريطانيا في عهد تاتشر، و ما تنجزه ألمانيا اليوم في عهد أنجيلا ميركل.
حتى الذين كانوا يعارضون تاتشر من الكتاب، يعترفون اليوم بأن هذه السيدة التي كانت تتهم بغياب الأنوثة، كانت تمارس فتنتها على عقول المثقفين بسطوتها وحضورها وفاعليتها. هذا ما يقوله الآن الكاتب البريطاني أوان ماكوان، الذي يشهد بأن الرواية عرفت انطلاقة في عهد تاتشر. أما عندنا فاليساريون الذين تحدثوا في المناسبة، بعد رحيل تاتشر، قد نظّموا مضبطة اتّهام ضدها، إذ لم يجدوا عندها أي حسنة، بحجة أنها المسؤولة عن السياسة الليبرالية الجديدة التي ينعتونها بالوحشية. ولكن هؤلاء يحاكمونها بنفس المنطق الذي قاد عالمهم الاشتراكي التقدمي إلى الانهيار والسقوط.
لقد أحسنت تاتشر، بعقلها المنفتح وحسّها السليم، قراءة المتغيرات العالمية، فغيرت وانتهجت سياسة جديدة في إدارة الشأن العمومي، باتخاذ الإجراءات واجتراح الوسائل التي أخرجت بريطانيا من مأزقها، وفتحت أمامها إمكانات للنمو والتطور.
طبعاً لم تحقق تاتشر فردوس المساواة، إذ لا فردوس في أي مجتمع. ولذا فإن قيم المساواة والعدالة والحرية، إنما تحتاج إلى العمل الدائم، تجديداً وتحديثاً وتفعيلاً للنماذج والقواعد والوسائل...
من المفارقات أن أهل اليسار المتكلس بفكرهم المدرسي وأصوليتهم العقائدية، يجهلون مبنى أفكارهم ومآل أعمالهم، ولذا نراهم يعارضون الأفكار والمذاهب التي تسهم في تحررهم، بقدر ما يدافعون عن المشاريع والأنظمة التي تنتج قيودهم. هذه حال الفيلسوف السلافي سلافوج جيجك، الذي يقف في وول ستريت في نيويورك لكي يهاجم النظام الرأسمالي الذي يتيح له حرية النقد، فيما هو كان يمنع من الكلام في بلده ذي النظام الاشتراكي التقدمي. وهذه حال عالم اللغة الأميركي وأبرز مفكر يساري عالمي، نعوم تشومسكي؛ فهو بحجة مقاومة استراتيجية الولايات المتحدة في الهيمنة والتسلّط، يؤيد الحكومات الديكتاتورية والأنظمة الشمولية والأحزاب الدينية، كما فعل أثناء زيارته إلى لبنان قبيل حرب يوليو 2006، إذ جاء به مريدوه من اليسار لكي يدعم تحالف إيران ـ سوريا ـ حزب الله.
وأنا بدأت باليسار العالمي، لأن اليسار العربي هو يسار مقلّد، تابع، أعمى، غير منتج لأفكار واستراتيجيات جديدة. ومن فضائحه أنه لا يدعم إلا الدول والأنظمة والقوى، التي تعاملت مع القوى والشخصيات اليسارية بمنطق النفي والاستبعاد أو الاعتقال والاغتيال. وهذا ما يفعله الآن بعض كبار رموزهم، بعد اندلاع الثورات العربية، بوقوفهم، صراحة أو مداورةً أو خفيةً، إلى جانب أنظمة الفساد والاستبداد، بذريعة أنها أنظمة علمانية تواجه المنظمات الإسلامية الأصولية.
وهكذا، هم يسدلون الستار على عقولهم، متجاهلين أن الأنظمة التي يدافعون عنها ليس لها من العلمانية سوى الاسم الخادع أو الخاوي، إذ هي أطاحت بكل مكتسبات الحداثة السياسية والديمقراطية، المدنية والحقوقية، لتقيم نظاماً شمولياً تسلطياً عسكرياً، على قاعدة الأسرة أو الطائفة، هو الوجه الآخر للنظام الإسلامي الأصولي. ولذا نرى الدولة العلمانية المزعومة في سوريا، قد استنجدت، منذ البداية، بالنظام الإيراني وحزب الله الجهادي، في حربها المدمرة على الشعب السوري، لأنه طالب بإقامة دولة مدنية، ديمقراطية، تعددية. ويا لها من آخرة وصل إليها من يعلن أنه يساري تقدمي، أو يتباهى بأنه الشيوعي الأخير:
أن يتواطأ مع من يعمل على استئصاله، ويرتد على أعقابه، لكي يمشي في مؤخرة الدولة الدينية! وقضية الإبادة التي تتعرض لها الجماعات والشعوب، ليست بالبداهة التي نحسب، وإنما هي تحتاج إلى إعادة النظر والتفكير. إذ ما معنى أن يبقى الأرمني اللبناني أسير ذاكرة المجزرة في أرمينيا؟ أو أن يبقى الشيعي اللبناني مقيماً في ذاكرة كربلاء التي تعيده أربعة عشر قرناً إلى الوراء؟ أو أن يبقى العلوي السوري أسير ذاكرة الاضطهاد؟ أو أن يبقى المسيحي اللبناني أسير عصر الذمة الإسلامي؟
نحن إزاء نفس المنطق الذي قامت عليه إسرائيل، باستراتيجيتها الاستيطانية وسياستها العدوانية وسلوكها القائم على الابتزاز والإرهاب. إنه المنطق الذي يحول الضحية إلى جلاد، ويدفع من ظلم إلى أن يملأ الأرض ظلماً وعدواناً، أو يحول ضحايا الإبادة والمحرقة إلى برابرة. وهكذا، نحن إزاء توظيف نفسي واستثمار سياسي وابتزاز ثقافي للمظالم التاريخية والحروب الأهلية، يصنع ذاكرة موتورة لا ترويها بحور من الدماء. هل ننسى؟ بالطبع لا، لأن ذلك ليس ممكناً.
ولكننا نتذكر، لا لكي نعيش تحت كوابيس الذاكرة، وإنما لكي نستخلص الدرس، بالتخفيف من أجواء التوتر بين الجماعات، والعمل على توسيع مساحات العيش المشترك بينها، وذلك بإبراز البعد الوجودي البشري، في مسألة الإبادة، كما تتمثل في شراسة الإنسان وعدوانيته ووحشيته التي ترتد ضد الجميع، دماراً متبادلاً، في عصر التشابك والاعتماد المتبادل. يمكن أن نقيم نصباً في الساحات، ولكن لا لكي نمجد "قيم" الشهادة والبطولة، بل لنجسد معنى كون الناس أعداء لبعضهم البعض ولأنفسهم.
كاتب ومفكر لبناني