المواقف الأميركية بشأن سوريا أشبه ما تكون الآن بالمؤشّر المالي في سوق البورصة، الذي يشهد ارتفاعاً أو انخفاضاً بشكلٍ مفاجئ ولا يسير على خطٍّ مستقر لفترةٍ طويلة، بينما لو كانت هناك نيّةٌ فعلية أميركية للتصعيد العسكري الفعلي ضدّ الحكومة السورية، لوجدنا تدرّجاً في خطٍّ تصاعدي متواصل وصولاً للتدخل العسكري.

كما حصل من تمهيد وتهيئة أميركية ودولية للحرب على العراق عام 2003، ولتدخّل حلف «الناتو» في ليبيا. فرغم وجود تيّار متشدّد ومؤثّر في الكونغرس الأميركي، يقوده السيناتور جون ماكين، يضغط من أجل الدعم العسكري للمعارضة السورية، ورغم وجود تحريض إعلامي أميركي يضغط أيضاً في هذا الاتّجاه، فإنّ حسابات الإدارة الأميركية لم تصل بعد إلى حتمية التصعيد.

ففي حساب صُنّاع القرار الأميركي عناصر داخلية وخارجية، ومستويات سياسية وعسكرية، لم يحصل أيٌّ منها بعد على نسبة ترجيحٍ كافية لقرار تصعيد الدور الأميركي في سوريا. لذلك نرى إدارة أوباما تتعامل الآن مع تطوّرات الأزمة السورية بأسلوب إعلامي وسياسي فقط.

ولا أعتقد أنّ هذه الإدارة ستتراجع عن هذا الأسلوب لعدّة أسباب؛ منها عدم الرغبة في التورط العسكري في أي أزمة دولية حالياً، خاصّةً أنّ الأزمة السورية تختلف تماماً عن الحالة الليبية، حيث تتشابك في الصراع السوري قوًى دولية وإقليمية عدة، لا تريد واشنطن التصادم الآن معها. كما أن إدارة أوباما ترغب الآن في تحسين علاقاتها مع روسيا والصين، وهما معاً تقفان ضدّ أيِّ تدخّلٍ عسكري أجنبي مباشر في الأزمة السورية.

فالأوضاع الأمنية السورية المتدهورة يوماً بعد يوم، أصبحت هي الأساس المطلوب معالجته فوراً قبل أن يتحوّل إلى حروبٍ إقليمية لا تريدها إدارة أوباما في هذه المرحلة، أو إلى مصدر نيرانٍ تُشعل حروباً أهلية أخرى في بلدان مجاورة، لا تضمن واشنطن نتائجها، وإنْ كانت حكومة نتانياهو تراهن عليها.

وسيكون التفاهم الأميركي/ الروسي على كيفيّة معالجة أوضاع سوريا، هو المدخل لتوافق واشنطن وموسكو على قضايا دولية أخرى. والأمر نفسه ينطبق على مفاوضات الدول الغربية مع إيران حول «ملفها النووي». فالعلاقة وطيدةٌ الآن بين كلِّ هذه القضايا، وبين الأطراف الدولية والإقليمية المعنيّة بها.

حتّى الآن، استفادت واشنطن من تداعيات الأزمة السورية لجهة إضعاف دولةٍ كانت ــ ولا تزال ــ تقف مع خصوم الولايات المتحدة في المنطقة، وأبرزهم إيران، وتُشكّل ثقلاً مهماً لروسيا في المشرق العربي والبحر المتوسط، ودعمت قوى لبنانية وفلسطينية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي.

كما أنّ الصراعات المسلّحة في سوريا، أدّت أيضاً إلى وجود أعداد كبيرة في الأراضي السورية من مقاتلي الجماعات الدينية المتطرّفة، المحسوبة على الخط الفكري والسياسي لتيّار «القاعدة»، ما سمح باستنزاف النظام السوري من جهة، وبتصفية أعدادٍ كبيرة من مؤيّدي «جماعات القاعدة» من جهةٍ أخرى، وهو أمرٌ لا تجد فيه واشنطن ضرراً على مصالحها في المنطقة.

إنّ واشنطن لم تكن في السابق مستعجلةً جداً على فرض تسوية سياسية للأحداث الدامية في سوريا، لكنّها حرصت في السنتين الماضيتين على ضبط الصراع وعدم انتشاره إقليمياً أو دولياً، فكانت الإدارة الأميركية تُشجّع الآخرين على تسليح بعض قوى المعارضة، دون تورّطٍ أميركيٍّ مباشر، ولا تُشجع في الوقت ذاته على حلول سياسية وأمنية لم يحن أوانها بعدُ أميركياً، كالذي حصل مع المبادرة العربية في خريف 2011.

يبدو الآن أنّ الظروف قد تغيّرت، وأنّ الأزمة السورية أصبحت عائقاً أمام تفاهماتٍ دولية مطلوبة بين واشنطن وموسكو، وفي المفاوضات التي تحصل مع إيران على دورها في المنطقة وعلى مستقبل العراق وأفغانستان. لذلك أعتقد أنْ لا تراجعات الآن عن التوافق الروسي/ الأميركي الذي حصل على صيغة «جنيف 2».

وعلى ضرورة تحقيق تسوية سياسية للأزمة السورية خلال وقتٍ قريب، رغم استمرار الاختلاف بين القطبين الدوليين حول تفاصيل التسوية المرتقبة. فأميركا لم تعد قادرةً وحدها على تقرير مصير العالم، كما حاولت في العقد الأول من هذا القرن الجديد.

ثمّ ما هي البدائل في حال فشل مشروع التسوية السياسية للأزمة السورية؟ أي هل سيكون الخيار البديل هو مزيدٌ من التصعيد العسكري في سوريا، وامتداد شرارات النيران إلى دول أخرى كلبنان والعراق والأردن، مع احتمالات حدوث حروب إقليمية تشترك فيها إيران وإسرائيل وتركيا؟

وهل لواشنطن وموسكو والقوى الإقليمية الكبرى مصلحة في هذه الحروب؟ أم سيكون الاحتمال، في حال الفشل في تحقيق تسويات، هو استمرار الأزمات على ما هي عليه، ثمّ ضبط إيقاعاتها المحلية ومنع توسيع رقعتها الجغرافية؟ وهل هناك إمكانية لفعل ذلك؟ بل هل هناك مصالح دولية بذلك؟

لا أعتقد أنّ هذا ممكن، ولا أرى أنّ هناك مصلحة أميركية وروسية وإيرانية في استمرار التأزّم الأمني والسياسي الحاصل. إسرائيل وحدها مستفيدة حالياً من الحروب الأهلية العربية، ومن التجاهل الدولي والعربي الجاري الآن للقضية الفلسطينية. وإسرائيل فقط، ومن معها في الأوساط السياسية الأميركية، ترغب في تغيير خرائط المنطقة وتفتيت كياناتها الراهنة.

هناك الآن فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية على سوريا وفي المنطقة العربية، لكنْ على الرافضين له من السوريين والعرب أن يصنعوا البديل الوطني الصالح، والبديل العربي الأفضل، وليس تسهيل سياسة الأجنبي ومشاريعه الطامحة للسيطرة على كلّ مقدّرات العرب، كما هو أيضاً المشروع الإسرائيلي الحاضر في الأزمات العربية، والعامل على تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ متصارعة.

هو الآن، في عموم العالم، عصر التضليل السياسي والإعلامي. فالتقدّم التقني، في وسائل الاتصالات والشبكات العنكبوتية وإعلام الفضائيات، اخترق كلّ الحواجز بين دول العالم وشعوبها. وأصبح ممكناً إطلاقُ صورةٍ كاذبة أو خبرٍ مختلَق، ونشره عبر هذه الوسائل، لكي يُصبح حقيقة عند ملايين الناس.

هو أيضاً، كما كان في القرن العشرين، عصر «المال والإعلام»، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير في صنع القرارات السياسية. هكذا فعل «اللوبي الإسرائيلي» في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب. وفي مقدّمة «الأكاذيب» التي تتردّد الآن، أكذوبة حرص «المجتمع الدولي» على تحقيق الديمقراطية في المنطقة العربية، وعلى حقوق الإنسان العربي وتوفير «المظلات الجوية» للدفاع عن المدنيين!