الاحتجاجات التي تشهدها تركيا قد تنهي الحياة السياسية لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ولا يعني ذلك أنها يمكن أن تسقط حكومة حزب العدالة والتنمية، وإنما يعني أنها قد تجبر الحزب على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.

وفي هذه الحالة لن يستطيع أردوغان أن يترشح كرئيس للوزراء بحكم الدستور التركي، وقد تجبر الحزب على أن يجري تعديلا قياديا يطيح بأردوغان، من أجل ضمان استمرار بقاء الحزب في الحكم لاستكمال مدة البرلمان الحالي، الذي يسيطر فيه على أغلبية المقاعد.

وقد كان رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان، ينوي إجراء تعديل دستوري يسمح له بأن يتولى رئاسة الوزراء لدورتين أخريين، لأن الدستور الحالي لا يسمح بتولي رئاسة الحكومة أربع دورات متتالية، وهذا الأمر كان مصدر خلافات داخل الحزب، خاصة بينه وبين رئيس الجمهورية عبدالله غل، الذي كان يمكن أن يتبادل المنصب مع أردوغان، بأن يصبح الأخير رئيسا للجمهورية منزوع الصلاحيات، ويتولى هو منصب رئيس الوزراء ذا الصلاحيات الواسعة.

ونعتقد أن تطورات تركيا الراهنة ستحول حتى دون أن يصبح أردوغان رئيسا للجمهورية، بسبب ردو فعله العنيفة تجاه المتظاهرين واتهامهم بالغوغائية، فضلا عن أن الاحتجاجات فتحت الباب أمام حديث واسع عن رأسمالية المحاسيب، التي تطبقها حكومة أردوغان.

والاحتجاجات التي اجتاحت تركيا في الايام الماضية، وما زالت مستمرة، أكدت أن حكومة العدالة والتنمية، على الرغم من النجاحات الاقتصادية التي حققتها ومعدل النمو المرتفع في تركيا خلال السنوات العشر الماضية، فهي لم تحقق العدالة الاجتماعية بالصورة التي تنهي الاستقطاب الاجتماعي الكبير في تركيا، بين فقراء ومهمشين وأغنياء استفادوا من سياسة رئيس الوزراء، ومعظمهم من رجال الأعمال المقربين من حزبه، بما يفتح الباب أمام الحديث عن فساد، وإن كانت معدلاته تقل كثيرا عن فساد الحكومات السابقة على حكم العدالة والتنمية.

والعصبية التي بدت على أردوغان في رد فعله على الاحتجاجات، تؤكد ما نذهب إليه من أنها قد تقضي على مستقبله السياسي. أما الهدوء والتفهم اللذان بدا عليهما الرئيس عبدالله غل، فهما يعنيان أنه سيكون هو رجل المرحلة المقبلة في تركيا، مع الوضع في الاعتبار تجربته كرئيس للوزراء في عام 2002.

وهو الذي مهد الطريق أمام تولي أردوغان، الرجل القوي في الحزب، لمنصبه وأصبح معه وزيرا للخارجية عدة سنوات قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية. كذلك فإن سفر رئيس الوزراء إلى المغرب العربي، وإسناد التعامل مع ملف الاحتجاجات إلى نائبه، هو في عمقه دليل على أن الحزب اتخذ قرارا غير معلن بأن أردوغان لم يعد صالحا للتعامل مع المرحلة المقبلة، وأن استمرار تعاطيه مع الأزمة سيزيدها اشتعالا.

وقد بدا أن نائب أردوغان سيتبع سياسة تهدئة تختلف عن تلك التي ينتهجها رئيس الوزراء، حيث طلب الاجتماع مع ممثلين عن الجماعات المحتجة، واعترف بخطأ التعامل العنيف مع جماعات البيئة التي احتجت في بداية الأمر على تحويل حديقة إلى مركز تجاري. وهذا يختلف عن أسلوب أردوغان، الذي اتهم المحتجين بأن قوى خارجية تقف وراءهم، ووصفهم بأنهم "غوغاء".

والأزمة التي تمر بها تركيا تؤكد أن حركة المعارضة ما زالت قوية، وأن الطبقة الوسطى التركية قوية وغير راضية عن أداء الحكومة. فالتظاهرات نشبت في المدن الرئيسية، مثل أنقرة وإسطنبول وأضنة وأزمير وبودروم، وهي معاقل الطبقة الوسطى المدينية.

كذلك فإن سياسات أردوغان التي كانت تهدف إلى تجريف المعارضة الرسمية، فتحت الباب أمام حركات شعبية متعددة هي التي حركت الشارع في مواجهة الحكومة، مثل الحركات اليسارية غير المنظمة في أحزاب، والمنظمات المدافعة عن البيئة، والحركات الشبابية.

كذلك فإن سياسة أردوغان في السيطرة على الإعلام، سواء عبر الضغط على ملاك المؤسسات الإعلامية أو عبر دفع رجال الأعمال الموالين له إلى تملك المؤسسات الإعلامية، لم تنجح في إسكات الأصوات المعارضة، بل ما زالت هناك أصوات رافضة في الإعلام، كما أن سياسة السيطرة لم تنجح بسبب لجوء الحركات المعارضة لشبكات التواصل الاجتماعي، سواء للتعبير عن رفضها أو من أجل بث وقائع الاحتجاج للعالم.

وإحدى النتائج الأساسية لهذه الاحتجاجات، هي أنها ضربت المشروع الرئيسي لأردوغان في مقتل، وهذا المشروع هو انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كعضو كامل. فالتعامل العنيف مع التظاهرات يعني أن تركيا لا تعتمد المعايير الأوروبية لحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يؤجل الانضمام لفترة من الوقت.

وسقوط مشروع أردوغان يمثل سقوطا معنويا له، ويمكن أن يعطي مميزات أخرى لمنافسيه في حزب "العدالة والتنمية"، خاصة من الأجنحة الأكثر اعتدالا. يضاف إلى ذلك أن المحادثات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، يمكن أن تؤجل لفترة في حال تغيرت الحكومة التركية أو تم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.

لقد وضعت احتجاجات تركيا نهاية لعصر رجب طيب أروغان، فحتى لو استكمل رئاسته للحكومة إلى نهاية الدورة البرلمانية، فإنه لن يستطيع أن يترقى إلى منصب رئيس الجمهورية حتى ولو كان شرفيا، وأصبح حلمه في تعديل الدستور لكي يستمر في رئاسة الحكومة سرابا.

أما النموذج التركي الذي سعى وسعت الدول الغربية لأن تصدره إلى باقي الدول الإسلامية، فقد سقط هو الآخر بعدما وضح أنه لا يقوم على المزاوجة بين الإسلام والديمقراطية، ولا ينهي الفساد بسبب القيم الدينية التي يحملها الحزب الذي ينتمى إليه رئيس الوزراء التركي.