دعوني أنبّه من هول كارثة قادمة زاحفة على مجتمعاتنا، فنحن إزاء حصيلة أكثر من نصف قرن من التاريخ الكاذب، والشعارات الزائفة، وحروب الكراهية، وحكم المستبدين، وصراع التناقضات، وهجمة المتخلفين.. ويشقى كل من يرى ويشهد اليوم انهيار منظومة القيم التي عاشت عليها مجتمعاتنا عبر أزمان طوال، لنجد أنفسنا أمام مجتمعات متناحرة متقاتلة ومتشظيّة، يغزوها التخلّف ويفجّر دواخلها المتوحّشون والغزاة والبغاة والرعاع، تحت مسمّيات شتّى..
خمسون سنة مرّت، وقد زرعت في مجتمعاتنا كلّ الغرائب والمصائب التي اكتسحتنا، دون أن يتملّكنا إحساس بالمخاطر.. خمسون سنة مرّت ونحن نفتقد يوماً بعد آخر، الاطمئنان وراحة البال والتعايش مع الآخرين، وروعة التسامح وحسن التعامل والألفة والدفء الاجتماعي.. خمسون سنة والهجرة من الريف إلى المدن أماتت حقولنا، وأجدبت مزارعنا، وأمحلت أرضنا، وأفنت حواضرنا، وقتلت المهن والصنائع والحرف، ونشرت في حواضرنا ثقافات هجينة.. خمسون سنة مرّت والحكومات هزيلة منشغلة بمصالح سلطوية، أو صراعات حزبيّة، أو مفاسد فردّية مع ضياع المال العام.. والنخب السياسيّة والمثقفّة تردّد الشعارات وتبثّ المؤدلجات، مع حرب الإذاعات والتجاوز على حقوق الإنسان.. خمسون سنة والرعب يجتاح المواطنين من قبل المخابرات والجواسيس والمرتزقة، وممارسة القمع والتعذيب والإبعاد والتهميش والنفي القسري.. خمسون سنة ومجتمعاتنا تنزف أبناءها بتهجير العقول وتشريد الملايين، ليكونوا مهاجرين أو منفيين أو ملاحقين.. خمسون سنة وزعامات بلهاء تسلطّت بلا أيّة شرعيّات، وحكمت بلا تفكير في احتياجات الناس.. خمسون سنة ونحن منشغلون بالحروب البدائيّة وصناعة أبطال من الورق!
خمسون سنة والتناقضات تستشري، حتّى غدت مجتمعاتنا مشوّهة.. خمسون سنة والوعي يتراخى، والأوهام تستشري، والكراهية تشتّد، من جرّاء أمراض جديدة كالطائفية المقيتة وصراع المستويات والطبقات.. خمسون سنة والحياة تتراجع في أهم البيئات التاريخيّة، لتغدو كسيحة ومتشظّية ومتسخة، بتفاقم حجم النعرات والموبقات في أمهات المدن، بانتشار العشوائيات والحارات المقفلة التي تسودها شريعة الغاب.. خمسون سنة تنوعت خلالها العصابات والميليشيات باسم الحزب الواحد، أو الأخ القائد، أو الزعيم الرائد، أو السيد المجاهد، أو أمير الجماعة... إلخ.. خمسون سنة والمدارس والجامعات تتهافت عن مستوياتها العليا، كي تصبح زرائب أو مداجن لأجيال لم تعد تستهويها المعرفة..!
ليس غريباً أبداً أن تفتقد مجتمعاتنا العربية، منظومة قيم وأساليب حياة ومفاهيم وأخلاقيّات، في ظلّ أوضاع كارثيّة هكذا، لم يستطع أحد انتقادها أو يتجرّأ على تعريتها مع غيبوبة علماء قانون واجتماع وأنثروبولوجيا وتاريخ واقتصاد وتربويات وصناعة سياسات.. أو حتى إسداء نصيحة للزعماء المستبدين، فندر الحكماء وأصحاب الرأي والحل والعقد وأهل الخبرات، ولم تنبثق أية أفكار تصدر عن فلاسفة ومنظرّين حقيقيين، ولم يتمّ أي إصلاح للأخطاء من قبل نقّاد ومصلحين واقعييّن، ولم يتشكّل أي مشروع عقلاني له شرعة حياة، أو منهاج مستقبل.. نحن اليوم على مفترق طرق صعب في تاريخنا الآني، وفي أمسّ الحاجة للوعي بما عليه واقع الأحوال، والاقتناع بأن كلّ ما يحدث من متغيرّات لا بدّ أن تغدو سيرورته ضمن مبادئ جديدة لصنع واقع جديد، وهذا لا يصنعه إلا إنسان يمتلك فكراً جديداً.
«إن الضرورة ماسّة إلى ذهنيات ذكية وقّادة غير مركبة.. وأيضاً إلى تشكيل أخلاقيات تعايش قيمي، وبناء تربية متمدّنة وعقليّة مستنيرة، ونفسيّة نظيفة، بعيداً عن كلّ آفات التعصّب والأحاديّة والانغلاق.. وبحاجة إلى منظومة قيم حقيقيّة، تعمل على استنباطها وتشريعها نخب فكريّة ذكيّة وسياسيّة مستنيرة ورجال قانون وتربية وتعليم، لوضع أسس لمراحل انتقاليّة وفق رؤية واضحة، قبل سنّ دساتير فاشلة أو إجراء مهازل انتخابية مضحكة باسم «الديمقراطية»..
إن الإنسان اليوم من الجيل الجديد سيبقى متهماً في واقعه، ولا يمكن أن نخدعه كما خدع من سبقه منذ خمسين سنة، ليس بتزويده بما يريد من الاحتياجات والمال والشعارات والكلام الفضفاض فقط، وننسى كيف ننتشله من واقعه بتغيير تفكيره وإقناعه بالبدائل الحقيقيّة في أساليب التمدّن والحداثة المعاصرة.. عليه أن يدرك أن مجتمعاته كانت مستتبة ومنتظمة ونظيفة، حتى انقلبت انقلابات مريعة نحو الأسوأ وضاعت في متاهات تفتك بها أمراض التاريخ وأصحاب الشعارات الكاذبة، وخطب الطائفيين والمتعصّبين، وبلادة الساسة والمتحزّبين الفاسدين، أو تفاهة الفنّانين والراقصين.. عليه أن يدرك أنّ الحياة لا بدّ أن تتمّدن بالضرورة، بابتعاد الإنسان عن التوحّش والتعصّب والعنف والطائفيّة والفساد وسوء المعاملة.. ليكن الإنسان ثائراً أو متمرداً ومؤمناً بما يريد، ولكن شريطة أن يلتزم بأخلاقيّات منظومته الاجتماعية وقيمها المتمدّنة. أتمنّى على مجتمعاتنا أخذ السبيل إلى ذلك، ودوماً أقول: انتظروا ما سيحدث في مجتمعاتنا في الثلاثين سنة المقبلة.. فلا تصفّقوا كثيراً، فالمهزلة لم تنته بعد!