هل ما يحدث في مصر الآن ينفصل عمّا يحدث في سوريا وعموم المشرق العربي، وعمّا حدث قبل ذلك في العراق من احتلالٍ وتفكيك لوحدة الشعب والكيان، وما جرى في السودان أيضاً من فصلٍ لجنوبه عن شماله؟ وهل محاولة توريط الجيش المصري في صراعات عنفية داخلية مسألة منعزلة عمّا حصل مع جيش العراق، ويحصل الآن مع جيش سوريا، وهي الجيوش العربية المستهدَفة إسرائيلياً منذ حرب عام 1973؟!
لقد بدأ القرن الحادي والعشرون بحربٍ أميركية على الإرهاب، برّرتها أعمال الإرهاب التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، لكن ساحات هذه الحرب الأميركية كانت البلاد العربية والإسلامية، والقوى المشاركة فيها شملت العديد من الدول الغربية، ممّا أعاد للذاكرة العربية ما حدث في مطلع القرن العشرين من استعمارٍ واحتلالٍ وهيمنة أوروبية على المنطقة العربية، ومن تقسيمٍ للأرض والشعوب العربية، حيث قامت كياناتٌ ودولٌ متصارعة على الحدود في ما بينها، بينما هي أحقُّ بأن تكون أمَّةً واحدة ذات كيانٍ سياسيٍّ واحد، كما هي أمم العالم الأخرى.
لكنّ الفارق بين "الأمّة الأميركية" مثلاً، و"الأمّة العربية"، هو أن توحيد الولايات الأميركية على أسس دستورية سليمة جعل منها أمّةً واحدة، رغم عدم وجود العمق التاريخي لها ولعناصر تكوين الأمم.
طبعاً، لم تكن هناك "أيدٍ غريبة" ولا "تدخل خارجي" في الحرب الأهلية الأميركية، كما هو حال العديد من الأزمات العربية الراهنة، ولم يكن هناك "مجلس الأمن الدولي" الذي يقرّر الآن مصير حروب ودول وشعوب، ولم يكن هناك صراع إرادات أجنبية أو "لعبة أمم" على الأرض الأميركية، كالذي نراه الآن على الأرض العربية.
فعدّة بلادٍ عربية تعيش في الوقت الراهن صراعاتٍ على السلطة، هي صراعاتٌ سياسية حتماً، مهما حاول البعض تشويهها بألوان طائفية دينية أو اثنية مختلفة. وهي صراعاتٌ محلّية، لكن تدعمها وتوظّفها قوى خارجية. وهي صراعاتٌ ممزوجة مع القضية الفلسطينية ومع مسألة المقاومة ضدّ الاحتلال، وبالموقف الإسرائيلي من القوى المحلّية المتصارعة. وهو أيضاً صراعٌ دولي وإقليمي في "منطقة الشرق الأوسط"، لكن أدواته وساحاته هي بلاد العرب وشعوبها.
والمؤسف في كلّ أماكن هذه الصراعات، هو أنّ هناك تهديداً حقيقياً للوحدة الوطنية ومخاطرَ نشوب حروبٍ أهلية تطيح حتّى بما جرى رسمه أوروبياً من خرائط وحدود في بدايات القرن العشرين.
في هذه الأزمات العربية المتفجرة الآن، جذور عميقة لسلبياتٍ داخلية تتحمّل مسؤوليتها حكومات و"معارضات"، بل إنّ هذه الجذور السلبية الداخلية هي الحافز المشجّع دائماً على التدخّل الأجنبي، الدولي والإقليمي.
وموقع مصر وثقلها البشري ودورها الريادي التاريخي في أحداث المنطقة، كلّها عوامل تجعل مصر مدخلاً لبلاد العرب جميعها. هكذا كان دخول القوى الأجنبية للمنطقة، وهكذا أيضاً كان خروجها منها، منذ الإسكندر المقدوني، إلى حملة بونابرت، إلى الاحتلال البريطاني، إلى الوجود السوفييتي في المنطقة، إلى "كامب ديفيد" وفرض معاهدات "سلام" مع إسرائيل. وربّما لا يتذكّر البعض هذه الخلاصة المهمّة جداً عن الدور المصري في المنطقة، لكن القوى الأجنبية الطامعة للهيمنة عليها تعلم أهمّية "المفتاح المصري" لأبواب آسيا وإفريقيا العربيتين.
وقد حدثت "ثورة 25 يناير" بفعل حركة شبابية مصرية تضامنت معها قطاعات الشعب المصري كلّه، لكن دون استنادٍ إلى قوة سياسية منظّمة لهذا الحراك الشعبي، ممّا جعل الثورة والثوار دون مرجعية تحصد نتائج الثورة فيما بعد، مّا أفسح المجال لحركة "الإخوان المسلمين" لأن تقتطف ثمار "ثورة يناير"، دون أن تكون هي العامل الأهم فيها.
إنّ مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال طلب الاستعانة بالتدخّل الخارجي أو من خلال العنف المسلح المدعوم معظم الأحيان خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها، حيث تتغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل أو العنف المسلح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية.
لكن "التسامح" مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجي، أو تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التي تسمح بهذا التدخّل الأجنبي المباشر أو غير المباشر. لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو في التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن" و"حرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط الآخر حتماً.
إنّ وجود تدخّل وتأثير خارجي في مسارات الحراك الشعبي العربي، يزيد من مسؤولية القائمين على هذا الحراك. هناك حاجة قصوى لإحداث تغيير في واقع عربي قائم معظمه على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، لكن الأسئلة المشروعة هي: من يقوم بالتغيير؟ وكيف؟ وبدعمٍ ممّن؟ ولصالح أيِّ برنامج أو رؤى بديلة للواقع المرفوض؟ وماهيّة آثاره على الوحدات الوطنية الشعبية وعلى هُويّة الوطن نفسه؟!
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة "الديمقراطية فقط" في البلدان العربية، هي أنّهم يفصلون المسألة الديمقراطية عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية "فقط" عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول والهيمنة على مقدّراتها، إن لم نقل أيضاً تفتيت وحدة كيانها ومجتمعها.
الديمقراطية حاجةٌ ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها ليست مسألةً منعزلةً عمّا تعيشه البلاد العربية من قضايا أخرى، ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية والهويّة العربية.
هناك إذن مزيجٌ مركّب من الأزمات، يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية واعتماد صناديق انتخابات، لا يحقّقان وحدهما "الشرعية الشعبية" والعدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصونان وحدة المجتمعات، أو يمنعان التدخّل الأجنبي، أو يحرّران الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها مسائل معنيّةٌ بها "الأمة العربية"، التي ما زالت تقوم على أوطان عربية مختلفة ومتصارعة مع نفسها في كثير من الأحيان..