نحو سبعين يوماً مرت على الثورة الشعبية المصرية الثانية في الثلاثين من يونيو المنصرم، التي لم تتوقف مفاعيلها وتداعياتها، على الإطاحة بعد عام واحد بحكم الإخوان المسلمين، الذي جاء عبر صناديق الاقتراع.

 فلقد أدى فعل الإطاحة بحكم الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان، إلى شبه انهيار لكل مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة، والذي بدا لبعض الوقت على أنه سيشكل المظهر السياسي الأبرز في المشهد العربي، خصوصاً بعد أن حظي بقبول ودعم الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، هذا القبول والدعم لم يكن اضطرارياً، بقدر ما أنه استند على ما يبدو إلى تفاهمات تنطوي على التزامات تتصل بالاستراتيجيات والمصالح.

ربما تكشف الأيام اللاحقة طبيعة ومدى أهمية هذه التفاهمات، لكن تروج في الأوساط السياسية والإعلامية المصرية أساساً، اتهامات تفيد بأن من بين هذه التفاهمات ما يتصل باستعداد الإخوان للتساوم مع مخططات أميركية غربية إسرائيلية، تسعى لحل القضية الفلسطينية من خلال إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة وأجزاء من سيناء، بما في ذلك استيعاب وتوطين اللاجئين، خصوصاً من سوريا ولبنان.

مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء هو مشروع قديم، سبق أن طرح في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ونجح المصريون في إفشاله في ذلك الحين. غير أن فشل مشروع التوطين في سيناء، لم يؤد بالقوى التي تبنته إلى التخلي عنه، فقد أشار أحد خبراء الأمن الإسرائيليين، إيغور آيلاند، مؤخراً، في دراسة قام بنشرها، إلى أهمية هذا المشروع.

إيغور آيلاند يتساءل؛ في أي اتجاه يمكن أن ينفجر الخزان السكاني في قطاع غزة، حين يطفح بسكانه بعد بضع سنوات؟ ويستنتج أن الحل المناسب هو في إزاحته نحو مصر، بدلاً من أن ينفجر في وجه الإسرائيليين.

هذه الوجهة لحل قضية الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، تحدث عنها بإسهاب ومراراً الكاتب والصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وكان كل ذلك قبل اندلاع ما يسمى بالربيع العربي، وتحت مسمى الحل الإقليمي.

وفي الساحة الفلسطينية كتب الكثيرون عن أن إسرائيل لا تملك مشروعاً سلمياً يؤدي إلى تحقيق رؤية الدولتين، التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن وتبنتها الدول الغربية، وأن كل ما يدور بشأن المفاوضات إن هو إلا لكسب المزيد من الوقت، وفي إطار إدارة الأزمة ريثما تأتي الفرصة المناسبة لفرض الحل الإقليمي.

يستند الكتاب الفلسطينيون في ذلك إلى قراءة عيانية لوقائع السياسة الإسرائيلية، التي تعتمد على جملة من العناوين المفصلية.. أول العناوين، حرص إسرائيل الشديد على إبقاء وتعميق حالة الانقسام الفلسطيني، ومواصلة الحصار على قطاع غزة بهدف دفعه تدريجياً نحو الاعتماد في كل ما يحتاجه على مصر، حتى لو كان ذلك عبر شبكة الأنفاق، قبل أن يتم ذلك رسمياً ومن فوق الأرض.

وتدرك إسرائيل أن مرور المزيد من الوقت على بقاء الانقسام، من شأنه أن يؤدي إلى تمكين حركة حماس من إقامة النظام السياسي، أو السلطة التي تريد، من دون أن تتعرض لتهديدات حقيقية.

ثاني هذه العناوين، إقفال ملف القدس على مخطط لتوسيعها، وإحاطتها بأحزمة استيطانية وتهويدها، عبر تهجير الفلسطينيين منها وإحلال اليهود بدلاً منهم، وقد يصل الأمر إلى حد تهديد وجود المسجد الأقصى، عبر حفريات وأنفاق وجسور بحثاً عن هيكلهم المزعوم.

ثالث هذه العناوين، تكثيف ومواصلة الزحف الاستيطاني في الضفة الغربية، بكل ما تحتاجه المستوطنات من بنى تحتية وطرق التفافية وخدمات، وذلك في إطار ما يعرف بخطة الانطواء التي طرحها شارون عام 2001 تحت مسمى الحل المرحلي بعيد المدى.

وفق خطة الانطواء التي تعمل بموجبها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ طرحها شارون، فإن إسرائيل تسعى لضم نحو 60% من أراضي الضفة الغربية، أي أنها ستخلي المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية المرتفعة، وهو ما تسميه حكومة شارون بالحل المؤقت، أو الدولة ذات الحدود المؤقتة التي يرفضها الفلسطينيون.

ربما فشل المخططات الأميركية الغربية الإسرائيلية، بعد قيام الثورة المصرية الثانية، هو الذي يفسر الغضب الأميركي والتحفظ الغربي إزاء الأحداث الجارية في مصر، التي أقفلت الطريق على هذه المخططات الجهنمية. الآن منذ بعض الوقت، أخذت تظهر في الأوساط السياسية الإسرائيلية فكرة الأردن، الوطن الفلسطيني البديل، وهي الأخرى فكرة كان أرييل شارون رائدها في أواسط ثمانينيات القرن الماضي.

المرجح أن تزدهر هذه الفكرة مجدداً كبديل عن مخطط الحل الإقليمي، أو كمكمل له، خصوصاً في ضوء التشاؤم الشديد الذي يتحدث عنه الفلسطينيون، بما في ذلك طاقم المفاوضات، بعد ست جولات تفاوضية قال عنها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدكتور نبيل شعث، إنها لم تصل إلى أي نتيجة.

ولكن، على الرغم من وعي الفلسطينيين لهذه المخططات والحقائق والتوجهات، ورغم الآثار المباشرة التي ترتبت على سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين، والأزمة الشديدة في علاقات حماس مع الحكم الانتقالي في مصر، والتي تتسبب في تشديد الحصار على غزة ومفاقمة الأزمات التي يعاني منها سكان القطاع، رغم كل ذلك، فإن موضوع المصالحة الفلسطينية لم يعد يتصدر اهتمامات وأولويات القوى الفاعلة.

بين المراهنة على إفشال تجربة الحكم الانتقالي في مصر وعودة الشرعية كما يتوهم الإخوان، وبين المراهنة على أن ترفع حماس الراية البيضاء، تستجدي المصالحة، يبدو أن ثمة مساحة من تدهور الأوضاع الداخلية الفلسطينية، والمزيد من الدماء، والاعتقالات والقمع، والعذابات.

الخشية في أن تترك القوى الفلسطينية الفاعلة، كل ملف المصالحة واستعادة الوحدة، إلى أيادٍ خارجية لكي تعيد صياغة الوضع الفلسطيني، وفق رؤاها ومصالحها التي تتطابق أو لا تتطابق مع رؤى ومصالح هذا الطرف أو ذاك، لكنها بالتأكيد لا تتطابق مع مصالح الكل الفلسطيني.