تأتي ذكرى أحداث 11 سبتمبر 2001 هذا العام، والعالم كلّه يتخوّف من اندلاع حروبٍ جديدة في منطقة الشرق الأوسط، يكون مدخلها التدخل العسكري الأميركي في سوريا. ورغم اعتقادي أنّ التسويات السياسية ستحصد زرع التهديدات بضرباتٍ عسكرية دون حدوثها، فإنّ خطأً بسيطاً في الحسابات أو عملاً عسكرياً غير مقصود، قد يؤدّي إلى ما لا تُحمد عواقبه من حروبٍ إقليمية وأزماتٍ دولية، تتجاوز ما جرى حتّى الآن من تداعيات للهجمات الإرهابية التي حدثت منذ 12 عاماً في الولايات المتحدة.

وبعد أكثر من عقدٍ من الزمن، نجد أن جماعاتٍ كثيرة ما زالت تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول في المنطقة، بينها سوريا والعراق ومصر ولبنان. وهناك بلا شك مسؤولية "غربية" وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنْ هذا عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.

ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/ العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي، مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.

وتظهر هذه الأزمة الفكرية أيضاً في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، من خلال ضعف الانتماءات الوطنية وما ساد بدلاً عنها من "هويّات دينية"، جامعة في الشكل لكنّها طائفية ومذهبية في المضمون والواقع.

ولعلّ بروز ظاهرة "التيّار الإسلامي" بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم تكن في المنطقة العربية حالةٌ من "الانحدار القومي" ومن ضعفٍ للهويّة العربية، كحصيلة لطروحات وممارسات خاطئة جرت باسم القومية وباسم العروبة، فشوّهت المضمون ودفعت بالنّاس إلى بدائل أخرى.

إضافةً إلى الفراغ الحاصل نتيجة غياب المرجعية العربية الصالحة، التي كانت تمثلها مصر ومؤسساتها الدينية والسياسية قبل أربعة عقود. لذلك، سيبقى إصلاح الفكر الديني والسياسي هو المقدّمة الأولى لبناء مستقبلٍ أفضل، متحرّر من إرهاب الدول والجماعات.. في الداخل والخارج.

ونجد في التاريخ وفي الحياة المعاصرة من هم ضدّ العنف كمبدأ، ويصرّون على استخدام أسلوب المقاومة السلمية كوسيلة لتحقيق أهدافهم، وعلى أساليب التغيير السلمي للحكومات والأنظمة.

وكان السيد المسيح، عليه السلام، داعياً لهذا المبدأ، وكذلك حرّر المهاتما غاندي الهند من الاحتلال البريطاني، بإصراره على هذا المبدأ وأسلوبه اللاعنفي. كما قاد رجل الدين المسيحي الأميركي مارتن لوثر كينغ، حركة الحقوق المدنية في أميركا خلال ستينات القرن الماضي، وقُتل وهو يدعو إلى المقاومة المدنية اللاعنفية.

وفي الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء وهو مضمون المصطلح المتداول الآن "الإرهاب" - مهما كانت الظروف والأعذار، حتّى لو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب.

وفي قول ابن آدم (هابيل) لأخيه (قابيل)، حكمةٌ بالغةٌ لمن يعيها: (لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطِ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين، إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين) (سورة المائدة/ 28 و29).

إنّ القتل العشوائي للأبرياء أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية. إنّ قتل النفس البريئة جريمة بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل من عباءات دينية أو طائفية أو وطنية.

إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرة خطرة على صورة الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمر يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب، وفي الحالتين، المصيبة كبرى.

كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يُجمِع الناس عليها، وتحوّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.

لقد أصبح العنف ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعاتٍ تسعى للتغيير الآن في حكوماتها وأنظمتها، بينما تسير أمور هذه المجتمعات من سيئ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي، يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعات أهلية دموية. والقوى المعارضة في البلاد العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، وباتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات.

لكن هناك أيضاً حالة "إرهابية" أخرى تعيشها البلاد العربية، وهي مسألة "الإرهاب الفكري" الذي يتمّ استخدامه الآن من قبَل جماعاتٍ ترفض قبول الرأي الآخر، فتخوّنه وتكفّره، لمجرد أنه يختلف مع مواقفها أو معتقداتها، وهي بذلك تطبّق مقولة: من ليس معي فهو ضدّي، وهي المقولة التي قامت عليها الحكومات الاستبدادية وقوى التطرّف في العالم كلّه.

فهذه ظاهرة خطيرة نراها تحدث الآن في أكثر من بلد عربي، كما هي الحال في ممارسات حركة "الإخوان المسلمين"، بل تصل أحياناً لدى بعض أعضاء هذه الجماعة إلى حدِّ تكفير الآخر لمجرّد عدم التبنّي الكامل لمواقف هذه الجماعة. فأيّ ديمقراطية تلك التي سيبنيها من هم يحملون سيف الإرهاب الفكري على المختلفين معهم؟!

 

مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن