ما حصل في الأيام الماضية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان تأكيداً لجملة توقّعات أشرت إليها في مقالٍ سابق يوم 29/8/2013 بعنوان "قرع طبول الحرب من أجل تسويات"، حيث استبعدت آنذاك حدوث الضربات العسكرية الأميركية، وتوقّعت أن تقوم إدارة أوباما بتوظيف الأمر لصالح فرض تسويات في منطقة الشرق الأوسط ولترتيب علاقاتها المتأزّمة مع موسكو.

وأجد الآن أنّ الاتفاق الأميركي الروسي بشأن الأسلحة الكيمائية في سوريا، ثمّ قرار مجلس الأمن الدولي الداعم لهذا الاتفاق، والتوافق أيضاً على ضرورة إطلاق مؤتمر جنيف 2، كلّها خطواتٌ مهمّة لتحقيق حلٍّ سياسي للأزمة الدموية في سوريا، بعدما فشلت الحلول العسكرية لدى كل الأطراف. والأجواء الإيجابية التي سادت مؤخراً حول مستقبل العلاقات بين واشنطن وطهران، والاجتماعات الموسّعة والثنائية في نيويورك بشأن الملف النووي الإيراني، هي أيضاً عاملٌ مهمٌّ في تسهيل التسويات المنشودة لقضايا إقليمية عديدة في "الشرق الأوسط".

وسيكون من الطبيعي أن تؤدّي التفاهمات الأميركية الروسية أولاً، ثمّ الأميركية الإيرانية لاحقاً، إلى انعكاسات إيجابية على أوضاع لبنان والعراق والأردن ومنطقة الخليج العربي، إضافةً حتماً إلى تأثيرات ذلك على تسريع الحل السياسي للحرب الدائرة في سوريا.

لكن أيضاً، ستأخذ مشاريع التسوية للصراع العربي/ الإسرائيلي، وفي مقدّمتها "الملف الفلسطيني"، دفعاً قوياً حينما يحصل تفاهم دولي بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن على ملفي إيران وسوريا، بحيث يكون ذلك مترادفاً مع إمكانية عقد مؤتمر دولي شبيه بمؤتمر مدريد في مطلع عقد التسعينات، من أجل تثبيت إعلان الدولة الفلسطينية والتنفيذ العملي لما يُعرف باسم "المبادرة العربية".

هكذا هي على الأقل مضامين "الأجندة" التي أعلنها الرئيس أوباما في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أكّد أن إدارته ستركّز الآن على تحقيق تسويات سياسية لملفّاتٍ ثلاثة: إيران، سوريا، والمسألة الفلسطينية. وهي ملفّات مترابطة وتتداخل فيها أطراف دولية وإقليمية عديدة، لكن المدخل المهم لتحقيق تسويات لها كان، وما زال، في كيفية العلاقة الأميركية مع موسكو ثمّ مع طهران.

أين العرب في ذلك كلّه؟ لقد مضت ثلاثة عقود ونيّف كان معظم البلدان العربية خلالها إمّا كساحات صراع أو كأدوات في الصراعات المتفجرة في أكثر من مكانٍ وزمان. فقد تزامن في مطلع عقد الثمانينات توقيع معاهدات "كامب ديفيد" وخروج مصر من الصراع العربي/ الإسرائيلي، مع اشتداد حدّة "الحرب الباردة" بين موسكو وواشنطن، وحدوث الثورة الإيرانية ثمّ الحرب العراقية/ الإيرانية، إضافةً إلى التفرّد الإسرائيلي بمنطقة المشرق العربي واحتلال بيروت وتشريد منظمة التحرير الفلسطينية.

 كلُّ ذلك حدث مع تراكم لسلبيات كثيرة بعده، في ظلّ غياب الدور المصري الفاعل في شؤون الأمَّة العربية. وها هي المنطقة العربية تشهد الآن تطورات سياسية وأمنية خطيرة، وتترقّب متغيّرات في العلاقات الدولية، دون توفّر حدٍّ أدنى من الرؤية العربية المشتركة.

ولعلّ في حلول الذكرى الأربعين لحرب أكتوبر 1973، ما قد يُذكّر أيضاً بأهمّية وضرورة وجود تضامن عربي لمواجهة التحدّيات القائمة والمتغيّرات والمشاريع القادمة. فلقد كانت "حرب أكتوبر" نموذجاً معاكساً لما هو حاصل اليوم من صراعات عربية بينية وفي داخل الدول نفسها.

إنّ استقرار أوضاع مصر الآن هو حاجة قومية عربية، وليس فقط مسألة وطنية داخلية مصرية. فالأمَّة العربية تفتقد الدور القيادي المصري، القادر على بناء تضامن عربي فعّال كالذي حصل بعد عدوان 1967 وأدّى لاحقاً إلى صنع النصر في "حرب أكتوبر".

هي أشهرٌ فاصلة وحاسمة تنتظر المنطقة الآن على أكثر من جبهةٍ ومكان، ويبدو أنّ إدارة أوباما تخطّط لكي تنجح في تنفيذ أجندتها المرتبطة بملفّات إيران وسوريا وفلسطين، قبل حلول موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام القادم، وقبل الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر 2014. وهناك على المستوى المحلي العربي، العديد من الاستحقاقات السياسية خلال النصف الأول من العام القادم، ممّا يزيد أهمّية الإسراع في وقف حال الانحدار العربي الذي تعيشه المنطقة منذ مطلع القرن الجديد.

إنّ إدارة أوباما قد لا تختلف، من حيث الغايات الكبرى والمصالح الأميركية المطلوب تحقيقها، عن الإدارات الأميركية السابقة، لكنّها تختلف حتماً عن إدارة بوش السابقة من حيث المنطلقات والأساليب، إذ إنّ منطلقات إدارة أوباما قائمة على النتائج السلبية التي أفرزتها حروب إدارة بوش وسياسة "محاور الخير والشر"، والانفرادية في القرارات الدولية المهمّة.

وهذا يعني مراجعة إدارة أوباما لكلِّ حقبة التأزّم في العلاقات مع روسيا وإيران وغيرهما، ووضع خطط وأساليب جديدة لما هو منشودٌ أميركياً من استمرار الدور الأميركي القيادي للعالم. إنّ واشنطن تفهم جيداً المجال الحيوي الجغرافي الذي تتحرّك فيه إيران، والذي يشمل حدودها المباشرة مع العراق وأفغانستان، وهما كانا ساحة المعارك العسكرية للولايات المتحدة خصوصاً، ولحلف الناتو عموماً.

ثمّ إنّ الساحل الإيراني في منطقة الخليج العربي يشرف على كلِّ الأساطيل الأميركية في المنطقة، وعلى مراكز التواجد العسكري الأميركي هناك، وعلى ما في هذه المنطقة من مصادر مهمّة للطاقة، وبالتالي فإنّ لطهران أيضاً دوراً مؤثّراً ومهمّاً في الاقتصاد العالمي.

وستكون إسرائيل هي المتضرّر الأكبر ممّا يحدث الآن من محاولات أميركية/ روسية لتسوية الأزمة السورية، ومن تحسين العلاقات الأميركية/ الإيرانية، فكيف إذا انتهت هذه التسويات بإعلان دولة فلسطينية مستقلة وبوقف الاستيطان وسقوط "المشروع الإسرائيلي" الذي وجد مصلحةً كبيرة في تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التقسيمية العربية، على مستوى الحكومات والشعوب؟

لقد كانت مصلحة إسرائيل، وما زالت، في تصعيد الصراعات في المنطقة، حتّى تفتك بوحدة الأوطان والشعوب وتعمّ الحروب الأهلية، ما يزيد تهميش القضية الفلسطينية والتأثير السلبي عليها.

كانت مصلحة إسرائيل، ولا تزال، في حدوث صراعات مذهبية محلية في المنطقة وتغيير خرائطها لإقامة دويلات طائفية وإثنية، فهل ستتوفّر إرادة أميركية ودولية قادرة على مواجهة العقبات المتوقّعة أمام مشاريع التسويات؟ وهل ستعيد الدول العربية حساباتها وتستعيد تضامنها المفقود لعقود، وتكون في عودة مصر البداية السليمة لمن يريد مصالح الأوطان والأمّة أولاً؟!