بعيداً عن الاستسهال في تناول وتفسير الحراكات الحزبية الداخلية وتفاعلاتها في الكيان الصهيوني، وبعيداً عن النظرة التسطيحية في قراءة وتفسير الظواهر التي تتحكم في مفاعيل قوة القرار والسياسة والاقتصاد في الكيان الصهيوني، يمكن القول بأن الصراعات الحزبية المختفية وراء العديد من الأزمات والتحولات التي فرضت نفسها على أرض الواقع، والأدوار الفردية ومعها خلافات التفاصيل في السياسة الداخلية والخارجية للدولة الصهيونية تجري تحت نار من الجمر المتقد، وهي خلافات وصراعات وتباينات زاد منسوبها بشكل تدريجي مع تصاعد الكفاح الوطني الفلسطيني من جهة، ومع تعمق الأزمات التي واجهت ومازالت توجه الكيان الصهيوني من جهة ثانية مع تدني مستويات الهجرة الاستعمارية الاستيطانية الإجلائية إلى التحولات الديمغرافية داخل المناطق المحتلة عام 1948.
وليس من مبالغة في القول إن المشروع الصهيوني برمته وأحزابه الكبرى، ينتظر بعد عقود من التفاعلات الهائلة إجابات كافية على أسئلة محددة بعد أكثر من خمسة وستين عاماً من إقامة الكيان الصهيوني على أنقاض الكيان الوطني للشعب العربي الفلسطيني.
فالسؤال الداخلي في الكيان الصهيوني وعموم أحزابه، والذي قلب رأساً على عقب «الثابت الأبدي السابق» إلى متحول، يتلخص فحواه بالقول: «إلى أين نحن سائرون، وهل من نهاية للطريق، وهل يمكن للقوة وحدها أن تؤبد مصير المنطقة والعالم، وهل يمكن أن نرسم بشكل نهائي مصير شعب آخر، قيل لنا قبل أكثر من مائة عام إنه غير موجود على الخارطة، وإن فلسطين الماضية كانت أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض»..؟
أسئلة وأسئلة باتت الآن أكثر من أي وقت مضى تتزاحم في باطن عالم الوعي الصهيوني، في صفوف الأحزاب والأنتلجنسيا الصهيونية، وعند أوسع قطاعات التجمع اليهودي الاستيطاني على أرض فلسطين.
إذاً، ففي بروز وتفاقم ظاهرة توالد وتعدد التيارات والمنابر داخل الأحزاب الصهيونية ذاتها، والتقديرات التي تشير إلى إمكانية اتساعها لاحقاً جملة من الأسباب الخارجية والداخلية، ويقف على رأسها السبب السياسي المتعلق بقصور الأحزاب وعموم الأنتلجنسيا الصهيونية عن تقديم الإجابات المتعلقة باستحقاقات التسوية تحت سقف قرارات الشرعية الدولية التي قبلها النظام الرسمي العربي بالرغم من الإجحاف الكبير الذي حملته في مضامينها تجاه الحقوق الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني.
حيث الجدل العام في القضايا التي تعتبر أساسية من وجهة نظر الوسط اليهودي (مستقبل الدولة العبرية الصهيونية، والمفاوضات مع الفلسطينيين ومصير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مصير المفاوضات المتوقفة مع سوريا..إلخ).
فضلاً عن الأسباب المتعلقة بالعوامل الداخلية الصهيونية، حيث نمو ظاهرة العودة إلى الجذور (الإثنية/القومية) خاصة عند اليهود الجدد الذين قدموا للاستيطان والاستعمار في فلسطين خلال العقد الأخير من القرن الماضي من جمهوريات ودول الاتحاد السوفييتي السابق وعددهم يفوق المليون نسمة، واتساع الهوة الطبقية بين قطاعات اليهود في الكيان الصهيوني، وهو ما أفصح عنه النائب السابق في الكنيست عن حزب ميرتس اليهودي الشرقي (من السفارديم) ران كوهين حيث قال: «إن الهوة تزداد بين الشرقيين والغربيين، بين الفقراء والأغنياء، فالعشرية الأولى من المجتمع تمتلك (800) مليار شيكل، في حين يمتلك (90%) من المجتمع (340) مليار شيكل فقط». وأضاف كوهين أنه «لا الدبابة ولا الطائرة يمكن لها أن تضمن أمن إسرائيل إذا كان المجتمع المدني يتفكك».
الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) فعلت فعلها في هذا التجمع اليهودي الصهيوني، وحققت انتقالاً تاريخياً دفع الدولة العبرية الصهيونية وأحزابها للاعتراف والإقرار لأول مرة بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن ماهية هذا الإقرار في تحديد مفهوم الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني عند الطرف الصهيوني.
فالانتفاضة الفلسطينية ونهوض الحركة الوطنية التحررية للشعب الفلسطيني ليسا ببعيدين عن الحراك الداخلي في إطارات الأحزاب الصهيونية الأساسية، والتأثيرات والتفاعلات التي نقلاها إلى داخل المجتمع اليهودي الاستعماري الاستيطاني فوق عموم أرض فلسطين التاريخية، فقد تركت آثارها بجنوح فئات واسعة من التجمع الاستيطاني الصهيوني نحو التطرف، وتوليد المزيد من الإرباك السياسي والعملي داخل الأحزاب الصهيونية على خلفية الأسئلة التي طرحتها الانتفاضة والكفاح الوطني للشعب الفلسطيني.
كما في توليد وتأجيج حالة الإرباك وإعادة الخلط التي أصابت تيارات «اليسار الصهيوني» على وجه الخصوص، وانكفاء أو تراجع نزوع بعض الأطراف الصهيونية من أقطاب الصهيونية العلمانية للقبول بمبدأ الحلول المتوازنة على أساس الاعتراف بالآخر، والتقارب مع أسس المرجعية الدولية للتسوية في الشرق الأوسط بما في ذلك عند صف من «المؤرخين الجدد» أو ما اصطلح على تسميتهم بتيار «ما بعد الصهيونية»، حيث ذاع صيت مؤرخ جديد اسمه بني مورس.