مرة جديدة يجد المرء نفسه مرغماً على فتح ملف المساعدات الأميركية لمصر، والداعي لذلك ولا شك القرار الأميركي الأخير بتعليق أو تأجيل تسليم معدات عسكرية أميركية لمصر، عطفاً على وقف مساعدات مالية اقتصادية تبلغ نحو 260 مليون دولار.
الحجة الواهية التي اتخذت أداة وذريعة لتبرير الإجراءات الأميركية الأخيرة هي دفع المصريين في طريق إقامة حياة ديمقراطية سليمة والإسراع بالانتهاء من الفترة الانتقالية الحالية.
غير أن هذا المبرر لم يجد قبولاً عند الكثير جداً من المراقبين والمحللين الأميركيين أنفسهم، انطلاقاً من انه إذا كانت مصر حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة فكيف لها أن تتخلى عنها وهي في وقت تحتاج فيه لتضافر الجهود المحلية والدولية من أجل مواجهة الإرهاب الداخلي الذي بات يتهددها؟
القرار الأخير يؤكد الازدواجية الأميركية القاتلة، وبخاصة أن الذي استمع إلى باراك أوباما من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة قد وقر لديه شعور بدفع إدارته للحكومة المصرية الانتقالية إلى الأمام بصورة إيجابية لا بشكل سلبي كما جرى.. ماذا يعني ذلك؟
قبل إعلان إدارة أوباما قرارها الأخير كان المنظّر الشهير للسياسات الأميركية ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ينصح المصريين بالقول: "لا تتخيلوا أن الإدارة الأميركية تراجعت عن مواقفها الرافضة للوضع الجديد في مصر حتى بعد خطاب أوباما الأخير أمام الأمم المتحدة الذي وجه فيه انتقادات ظاهرية لمرسي".
حديث هاس يدعو من جديد للتساؤل لماذا الإصرار على معاقبة مصر؟
ربما يقتضي الجواب العودة إلى الفترة الزمنية التي أعقبت نكسة يونيو عام 1967، ذلك انه رغم الهزيمة العسكرية السريعة، إلا أن الجسد المصري انتفض واقفاً سريعاً بعد أن امتص الصدمة وعاد صلب العود من جديد، وتشهد بذلك أيام حرب الاستنزاف.
هذه الصحوة أزعجت الأميركيين ولذلك عملوا على فهم الأسس الحياتية التي كفلت لمصر العودة بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية وقد اكتشفوا وقتها أن هناك ثلاثة عوامل كانت هي السبب الرئيس:
الأول هو قدرة نظام عبدالناصر الاقتصادي الذي ضمن توفير أساسيات الحياة من مأكل وملبس ومسكن لعموم المصريين، وقد لعب في ذلك القطاع العام الذي شيده الزعيم الخالد دور العمود الفقري في هذا الإطار.
والثاني هو أن النسيج الاجتماعي المصري كان من المتانة والقوة والتوحد على شعار واحد لا صوت يعلو على صوت المعركة.
أما الأمر الثالث فقد كان وجود جيش مصري نظامي يعتمد على الذات دون انتظار مساعدات أوروبا أو أميركا، وعلى رأسه قيادة وطنية لا تخشى شيئاً ولا تطمع في سلطة، بل هدفها الوحيد هو تحرير الأرض واسترداد الكرامة.
هل اليوم شبيه بالأمس؟
الشاهد أن أميركا وعبر ثلاثة عقود من التحالف مع مصر نجحت وعبر وسطائها الاقتصاديين من جماعة الكمبرادوريين في القضاء على إرث عبدالناصر الاقتصادي، وتم بيع القطاع العام وخصخصته، ولاحقاً عبر الفتن والمؤامرات أفسدت وحدة النسيج الاجتماعي المصري، ولم يتبق الآن سوى الجيش المصري والمؤسسة العسكرية المصرية فهل المراد أميركياً الآن هو تفكيك وتفتيت قوتها، وهي المؤسسة الوحيدة القائمة على أقدام من نحاس لا فخار من البصرة شرقاً إلى طنجة غرباً؟
قطعاً للذي راقب المناقشات التي دارت في مجلس الشيوخ الأميركي قد رأى أن الاتجاه السائد هناك هو القول إن مصر لا ولن تحارب، ولهذا فهي ليست بحاجة إلى طائرات أف 16 أو أباتشي ولا دبابات متطورة أو صواريخ، إنما هي في حاجة إلى معدات ومساعدات عسكرية توجه لحماية الحدود في سيناء ومواجهة الإرهاب هناك، هل من دلالة لتلك الكلمات؟
حكماً، إنها تعني أن تكون المؤسسة العسكرية المصرية ليست إلا حارس أمن لحماية إسرائيل، لا مؤسسة عسكرية قوية قادرة على صون كرامة مصر واستقرارها ومن المكانة لمواجهة المؤامرات التي تحاك لمصر ليل نهار خارجياً وداخلياً.
في هذا السياق يتذكر المرء الضغوطات الأميركية المستمرة على مصر من أجل الإعلان رسمياً عن موازنة وزارة الدفاع وتالياً إدماجها في الموازنة العامة للدولة، وهو الأمر الذي حاوله وبشدة البرلمان السابق الذي كان يتسيد المشهد فيه جماعة الإخوان المسلمين.
على أن المشهد العقابي الأوبامي لا يوفر بعداً آخر له أهميته مصرياً وعربياً، وتراه واشنطن خطراً محققاً، ذاك المتمثل في الشعبية المتنامية مصرياً والمترامية عربياً لوزير الدفاع المصري الفريق أول عبدالفتاح السيسي، لا سيما وان الرجل بدا نجمه كاريزماتياً، فهل المقصود وقف المشروع السيسي الذي يعيد لمصر دورها العروبي والإقليمي ولم شمل العرب من جديد. عقوبات أميركا لن تؤثر على مصر بقدر تأثيرها على أميركا نفسها ولهذا حديث آخر بالتحليل، غير أنها ستؤثر ولا شك على مصداقية أميركا في العالم العربي، فمن يثق في دولة تبيع أصدقاءها على رؤوس الأشهاد مثلها؟
ويبقى أمر آخر وهو أن "وقف برنامج التمويل العسكري الخارجي مع مصر سيترتب عليه نتائج باهظة التكاليف على الشؤون الاستراتيجية والداخلية بالنسبة للولايات المتحدة"، والعهدة هنا على ديفيد شينكر مدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الصديق واللصيق لإسرائيل. عقوبات أوباما الأخيرة وقبلها تصريحات الجنرال شيلتون عن المؤامرة ضد مصر تستدعي التنادي المصري والعربي في وجه "الأسوأ لذي لم يأت بعد"، ولله الأمر من قبل ومن بعد.