أدت التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والانتشار الواسع لوسائل الإعلام في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - من انتشار الصحافة ذات التوزيع الكبير إلى اختراع السينما والراديو والتلفزيون إلى انتشار الكتاب، وأخيراً انتشار الوسائط المتعددة والإنترنت - إلى "جمهرة" وجماهيرية الثقافة..

حيث جعلتها في متناول الغالبية العظمى من أفراد المجتمع. فإذا كانت الثقافة قبل هذه الاختراعات تقتصر على نخبة من النبلاء والبورجوازيين فإنها اليوم انتقلت من النخبوية إلى الجماهيرية. الأمر الذي أدى ببعضهم للكلام عن ديمقراطية الثقافة وجماهيريتها. لكن هل هذا الانتشار وهذه "الدمقرطة" التي يدعيها البعض بريئة ولا تحكمها آليات وميكانيزمات وقيم ومعايير تخدم القوى السياسية والاجتماعية التي تدير وتقود المجتمع؟

هناك من يرى أن انتشار الثقافة على نطاق واسع أدى إلى مساءلة ظاهرة الصناعات الثقافية التي أدت إلى تعليب الثقافة وتنميطها ومن ثم إلى توحيد الخطاب الإعلامي والثقافي ومن ثم القضاء على الخصوصيات الثقافية. ما هي تداعيات تصنيع الثقافة وتعليبها وتنميطها وتفريغها من محتواها على الثقافة نفسها؟ ثم على المتلقي؟

أسئلة جديرة بالدراسة نظراً لأهميتها ووقعها على، ليس المستوى القطري فقط وإنما على المستوى الإقليمي والدولي كذلك. ألا تساهم وسائل الإعلام في نشر ظاهرة الأحادية أو التوحيد الثقافي؟ ألا تساهم في عولمة الثقافة لصالح دولة معينة، وهي الولايات المتحدة الأميركية.

أفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها من دون هوادة. فالسلطة الحقيقة في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية ..

وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحياناً على ميزانيات بعض الدول والحكومات، بل مجموعة من الدول والحكومات. فالتطور الجيو - اقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي.

وبذلك أصبحت وسائل الإعلام ذائعة الانتشار كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والشبكات التلفزيونية والإنترنت تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة مثل "فياكوم" و"نيوزكورب" و"مايكروسوفت" و"برتلسمان" و"يونايتد غلوبال كوم" و"ديزني" و"تلفونيكا" و"آ أو أل تايم وارنر" و"جنيرال إليكتريك" وغيرها.

هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة إمكانات وقدرات هائلة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية الكتابة، الصوت، الصورة..

وفتحت المجال أمام الإنترنت والوسائط المتعددة والثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعملة لبث ونشر ذلك، قنوات متعددة ومتنوعة من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي ..

حيث إنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات لتصبح بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية.

نلاحظ من جهة أخرى أن الكثيرين تفاءلوا خيراً و ظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجية الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وفي صناعة القرار. لكن الواقع أثبت عكس ذلك تماماً، حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة سواء في الشمال أو الجنوب.

هناك ثلاثة شروط رئيسية لتوقعات التطور المستقبلية في الشرق الأوسط وهي الحرية والتمويل والاحترافية. ويبقى التلفزيون في الوطن العربي حبيس الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة..

وتابع لشبكة عالمية من الصناعات الإعلامية والثقافية التي لا ترحم ولا تشفق على من لا ينتج وينافس. فبوجود أكثر من 1400 فضائية عربية ناهيك عن انتشار الإنترنت والهاتف النقال ووسائل الإعلام الجديدة زادت الهوة عمقاً بين المدينة والريف في الدول العربية، كما اتسعت المساحة بين الحاكم والمحكوم.

كما زادت تبعية الإعلام العربي في ظل العولمة إلى كبريات الصناعات الإعلامية والثقافية في العالم، وأصبحت معظم الوسائط الإعلامية في الوطن العربي عبارة عن صناديق بريد تستقبل وتوزع ما يرد من وراء البحار.