يشار إلى السوريين عادة من قبل المؤرخين والصحافيين والسياسيين بأنهم فتحوا باب الانقلابات العسكرية، فقد حصل أول انقلاب عسكري في العالم الثالث في سوريا عام 1949، وهو انقلاب المرحوم الزعيم حسني الزعيم، الذي حكم  ثلاثة أشهر ونيف، صدق خلالها على اتفاقية مرور أنابيب نفط شركة (التابلاين) الأمريكية، من سوريا، ثم وقع انقلاب عليه وأُعدم. وكان انقلاب الزعيم صناعة أمريكية، وقد أكد ذلك الملحق العسكري الأمريكي في سوريا بعد عدة سنوات.

وكرت سلسلة الانقلابات بعدها في سوريا وفي غيرها من البلدان النامية، وصارت حادثاً تقليدياً في بعض البلدان، حتى كادت تصبح نمطاً من أنماط الحكم المتداولة. ومنذ ذلك الوقت بدأت إشكالية العلاقة السورية - الأمريكية، التي أحيطت دائماً بالحذر والشك والخوف، والاتهام بالتآمر والمؤامرة من قبل السوريين، وترسخت قناعاتهم بأن السياسة الأمريكية، تهدف للحلول محل الاستعمار الأوروبي (الكولونيالي) المنسحب..

وتعززت بذلك نظرية (المؤامرة والتآمر)، بسبب الموقف من مشروع الرئيس أيزنهاور (ملء الفراغ في الشرق الأوسط)، الذي عبر عن رغبة بالهيمنة على المنطقة، واكتشاف بعض التدخلات الأمريكية السرية، و(التآمرية) في الشأن السوري، ودعم بعض السياسيين في الانتخابات (مالياً ومعنوياً)،ودعم التهديدات العسكرية التركية لسوريا عام 1957..

ومعاداة السياسة الأمريكية للوحدة السورية -المصرية، وللإجراءات التحررية التي قامت بها مصر قبل الوحدة وأثناءها، مثل كسر احتكار السلاح، (وكانت سوريا هي الوسيط لكسره بين عبد الناصر والسوفييت)، وبسبب استمرار الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل.

وهكذا عززت الممارسات الأمريكية قناعة السوريين بعدائها لهم، وتأكد وعيهم أن الأمريكان يتآمرون عليهم. منذ مجيء حزب البعث للسلطة، أطلق دفقاً غزيراً من الشعارات ضد السياسة الأمريكية، تنطلق جميعها من مقولة، إن هذه السياسة تتآمر على التحرر العربي والحقوق العربية، وعلى سوريا ونظامها التقدمي..

كما تنطلق من قناعة أن الولايات المتحدة هي زعيمة الإمبريالية العالمية، وبالتالي فالعداء كان عميقاً ودائماً معها، ومع الزمن وانتشار الاتصال، دخلت هذه القناعات في أعماق وعي غالبية الشعب السوري، ولم تتغير هذه المفاهيم رغم العلاقات السرية المباشرة أو غير المباشرة، التي قامت بين السياسة الأمريكية وبين النظام السوري..

وقادته خلال العقود الأربعة الأخيرة، التي كان لها عرابون سوريون معروفون، يلعبون دور صلة الوصل، رغم أن هذا النظام خلال هذه العقود، كان يلقي كل فشل أو نقص أو إخفاق، على التآمر الأمريكي على سوريا، و(ثورتها).

ما إن انطلقت شرارة انتفاضة الشعب السوري عام 2011، حتى فوجئ أهل النظام السوري بأمرين: أولهما بأعداد المنتفضين الهائلة، التي انطلقت في شوارع مدينة درعا التي كانوا يعتقدون أنها آخر مدينة ستنتفض، باعتبارهم (بعد ما جرى في تونس ومصر درسوا مختلف الاحتمالات)، وثانيهما أن المطالب كانت بسيطة (وعميقة)..

ولا يمكن رفضها (الكرامة، الحرية، كف يد أجهزة الأمن عن القمع والابتزاز..الخ)، وحسب التقاليد التي مارستها السياسة السورية طوال عقود، فقد أعلنت السلطة فوراً ومن دون تبصر أن هذه الانتفاضة (مؤامرة خارجية مزودة بالسلاح والمال من الخارج..الخ).

كان هذا موقف النظام، وهذه معاييره لتوصيف الموقف، أما من طرف السياسة الأمريكية فقد كانت الانتفاضة فرصة لها (كما يبدو)، لتحقيق أهداف ثلاثة رئيسة وهي: المساهمة في إيجاد الظروف المناسبة ليدمر السوريون بلدهم، ونزع السلاح الكيميائي من أيادي الجيش السوري، وكبح النفوذ الإيراني الإقليمي، ومنع تسلحه بالسلاح النووي، أما ما كان الشعب السوري ومعارضته ينتظرونه من السياسة الأمريكية..

واستطراداً من السياسة الغربية عموماً، أي مساعدتهم لإسقاط النظام وإقامة نظام جديد ديمقراطي تعددي تداولي، فإنه مجرد أمنيات وأوهام لا أرضية واقعية لها في السياسة الأمريكية، وقد وضح الآن أن الأمريكيين والغرب عموماً، يهتمون بمصالحهم غير المعلنة، ولا يهمهم لا حاضر الشعب السوري ولا مستقبله، ولا يهتمون بالتدمير والقصف والعسف، الذي تقوم به قوات النظام السياسي القائم..

ولا يجهدون أنفسهم بإنقاذ هذا الشعب مما هو فيه، ووقف شلال الدم السوري والدمار الاقتصادي والغلاء والجوع والفقر، ويتلقون ببرود وراحة ضمير أعداد القتلى السوريين الذي تجاوز (120) ألف، وأعداد المعتقلين والمفقودين والنازحين عن بيوتهم، وملايين السوريين المشردين، ومعظمهم من لأطفال والنساء الذين (يتلجلجون)، ويهانون في دول الجوار، حيث يواجهون ظلماً واستهانة وعسفاً، لا تقل عما كان يفعل بهم نظامهم.

لقد حققت السياسة الأمريكية أهدافها الرئيسة الثلاثة التي ذكرت، وقضت وطراً مما يجري في سوريا، ولم يعد يهمها بشيء، حاضر الشعب السوري ومستقبله، ويبدو أنها على استعداد للتحالف مع النظام السوري القائم تحالفاً آثيماً بين طامع ومستبد، والمفارقة أن بعض السوريين ما زالوا يأملون خيراً بالسياسة الأمريكية، وأن بعضهم الآخر مازال موالياً للنظام السياسي السوري القمعي الذي لا يرحم ولا يشعر بمسؤولية تجاه شعبه.