في مناسبة الاحتفال بذكرى اليوم الوطني الذي يلقي بظلاله علينا هذه الأيام، يجدها الكثيرون فرصة للإعراب عن فرحتهم بهذه المناسبة الطيبة، والتعبير عما يشعرون به من أحاسيس جياشة حيالها تفيض بالاعتزاز بهذا اليوم والسرور به، حيث يمثل الاتحاد منصة ارتكاز انطلق منها الوطن نحو آفاق رحبة من التطور والنمو.

ويتبارى الجميع في استعراض ما حققه الوطن على مدى السنوات الماضية من إنجازات، بفضل شيوخنا الكرام الذين أخلصوا لهذه الأرض الطيبة، وضحوا من أجلها بكل غال ونفيس، بداية من الرواد الأوائل الذين قام الاتحاد على أكتافهم، وفي مقدمتهم يأتي الشيخان الجليلان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما، حتى خلفهما الصالح وفي مقدمتهم صاحب السمو الشيـخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، اللذان سارا على الدرب وترسما نهج الرواد الأوائل.

والواقع أن ما حققه شيوخ هذا الوطن الكرام لا يندرج تحت ما درجنا على تسميته بالإنجاز، ولكنه في حقيقة الأمر إعجاز.. نعم، إعجاز يفوق كل المقاييس. ففي ظل الاتحاد شهدنا جمعياً نقلة حضارية، وإن شئت فقل: قفزة حضارية في جميع المجالات، مثل الصحة، والتعليم، والأمن، والخدمات الاجتماعية، والرياضية، والعمران، والمواصلات، والاتصالات... ولعل محاولة إحصاء ما تحقق في هذه المجالات من إعجاز أمر بالغ الصعوبة، أو هو عصيّ على الحصر، بالإضافة إلى أنه أساساً لا يحتاج إلى إثبات لأنه ثابت بالفعل، ولا سبيل إلى إنكاره أو الطعن فيه.

عندما جلستُ إلى طاولتي، وأمسكتُ القلم لأسطر كلمة في هذه المناسبة الغالية احتفاءً بالذكرى الثانية والأربعين لليوم الوطني، راحت الأعمال المجيدة التي قدمها لنا هؤلاء الرجال العظام الذين أكرمنا الله بهم، تتدافع في مخيلتي، وتتزاحم في صدري لفترة من الزمن، تساءلت خلالها عما يجب أن أبدأ به، وما يجب أن أركز عليه؟ وكيف يكون ذلك في إطار محكم من أصول العرض العلمي ومبادئ الصياغة الأدبية؟ وراحت تساؤلات عديدة تدور في ذهني.. إذا كانت كل هذه الأمجاد قدمها لنا شيوخ هذا البلد الطيب، فما الذي قدمناه نحن أبناء هذا الوطن؟ ما هي إنجازاتنا؟

هل قدمنا شيئاً نفخر به؟ هل يحق لنا أن ندّعي أننا أسهمنا في نهضة هذا الوطن؟ ما الذي فعلناه من أجل الأجيال المقبلة؟ لقد أخذنا الكثير والكثير عطاءً وإكراماً من هذا الوطن المعطاء الكريم، ولكن ماذا أعطينا في المقابل؟ ألم يقل ربنا جل وعلا في كتابه الكريم: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» (الرحمن: 60).

انتابني شعور شديد بالحياء وأنا أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة.. استحييت من ربي، ومن نفسي.. وغداً سوف أستحي من الأجيال المقبلة عندما يكتشفون تقصيري، وما كان يجب عليّ أن أقدمه. صحيح أنني عندما قام الاتحاد عام 1971 كنت وجيلي ندرس في المرحلة الابتدائية، ولم يكن يُنتظر منا عطاء يذكر في هذه السن المبكرة.. ولكن اليوم يجب أن يكون لجيلي والأجيال التالية له عطاء للأجيال المقبلة، فنحن أخذنا وتلقينا واستفدنا من عطاء وطننا.. وجاء الوقت الذي يجب فيه على كل منا أن يسأل نفسه: ماذا أقدم لوطني؟ وكيف يكون ذلك؟ وما هو السبيل إلى تحقيق هذه الغاية؟

في تصوري أنه يجب أن يكون لكل منا وقفة مع النفس في اليوم الوطني كل عام، يتساءل فيها عما قدمه لهذا الوطن الذي أعطاه الكثير. فليقدم كل منا أقصى ما يستطيع في مجال عمله.. عليه أن يبذل قصارى جهده.. عليه أن يخلص في ما يؤديه. ولكن كيف يتسنى له أن يقدم أقصى ما يستطيع؟ وكيف يمكنه أن يبذل قصارى جهده؟! لا يمكن أن يتحقق له ذلك إلا بالعلم، فلا عمل بغير علم. إنني ممن يؤمنون بأنه إذا كان لا خير في علم بغير عمل، ولا خير في عمل بغير علم، فإنه لا خير إلا في علم يقود إلى عمل، ولا خير إلا في عمل يقوم على علم. ومصداقاً لهذا كان من الدعاء المأثور عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً".

ويشير هذا الحديث الشريف إلى أنه لا نهاية للعلم ولا حد له، وهو ما أفهمه من "وزدنا علماً"، فلا سقف للزيادة في الكم أو الكيف، ويأتي هذا الدعاء اتباعاً لأمر المولى عز وجل لرسوله الكريم: «وقل رب زدني علماً» (طه: 114). من أراد أن يبدع في عمله فعليه بالعلم، فالعلم سبيل المعرفة، والمعرفة أم الإبداع، ولا إبداع بغير معرفة.

من الخطأ أن يتصور أحدنا أن ما أعنيه بالعلم هو الحصول على شهادة إحدى المراحل التعليمية، سواء كانت شهادة جامعية أو حتى شهادة الدكتوراه، وإنما أقصد التعليم الدائم واكتساب المعرفة. يجب أن يسأل كل واحد نفسه في اليوم الوطني؛ ما الجديد الذي تعلمه على مدى عام مضى؟ وماذا فعل بهذا العلم؟ وهل استفاد أو أفاد من هذا العلم؟ هل عمل به؟ هل علّمه لآخرين؟ هل استطاع هو أن يقدم إبداعاً لوطنه من خلال هذا العلم؟ وهل استطاع آخرون أن يقدموا لوطنهم إبداعات بما علمهم من العلم؟

بقيت كلمتان أود أن أوجههما لأبناء وطني؛ الأولى: علينا جميعاً أن ندرك أن ما نقدمه من عطاء لوطننا ما هو إلا رد لدين اقترضناه في ظل سني عمرنا الأولى، وما زلنا نقترض، وما زال عطاء وطننا لنا ولأبنائنا مستمراً، فلا يتصور اليوم أحد أن عطاءه فضل، ولا حتى عدل، وإنما هو من قبيل رد الجميل، وهو فريضة يجب القيام بها، وأمانة يتعين علينا أن نؤديها إلى أهلها.. وهل لها أهل إلا من ائتمننا عليها، وأسند إلينا أمرها؟!

أما الكلمة الثانية فهي أنه يتعين على أبناء هذا الوطن الاعتراف بأن هذه الفريضة، وإن كانت ديناً قابلاً للرد، إلا أنها دين غير قابل للوفاء. وأقصد من ذلك أنه يتعين على كل ابن من أبناء هذا الوطن ممن ردوا بعضاً من هذا الدين، ألا يظن في لحظة ما مهما كان عطاؤه أنه قد وفى ما عليه، أو أنه أوشك على الوفاء بما في رقبته من دين نحو الوطن.. فدينك نحو وطنك كدينك نحو والديك، دين واجب الرد ولكنه لا يوفى أبداً ما حييت.. فهكذا، وهكذا فقط تبنى الأوطان، ويرفع لواؤها، ويعز أبناؤها بين جميع البلدان... وكل عام وأنتم بخير..