الزمان لا يجود كثيراً بالقادة العظام، والتاريخ لا يحركه إلا أولئك الذين امتلكوا الشجاعة والصلابة وقوة العزيمة والصبر، والقدرة على التضحية ورؤية الأمور على غير ما اعتاد أن يراها العوام. وقد فقدت الإنسانية واحداً من أولئك القادة العظام، وهو نيلسون مانديلاً الذي عمر ليعيش قرناً إلا نيفاً (1918 2013)..
والذي جعل من سني عمره الطويلة كفاحاً من أجل القضاء على نظام الفصل العنصري (الأبارتيد)، الذي مارسه فعلياً التجار الهولنديون منذ اليوم الأول الذي وطئت أقدامهم أرض جنوب إفريقيا، حيث بنوا فيها مستعمرة رأس الرجاء الصالح (كيب تاون) عام 1652، ثم ليتأسس ذلك النظام بشكل "قانوني" حينما أعلن قيام جمهورية جنوب إفريقيا في العام 1961.
وأرض جنوب إفريقيا عجيبة في هذا المقام، أقصد أن يبرز من بين أبنائها أو من سكنوا فيها، قادة عظام تطبق شهرتهم الآفاق فلا يظلون قادة محليين، وإنما يأخذوا الصفة الإنسانية العامة. فهي إلى جانب مانديلا الذي رحل عنا، حوت المهاتما غاندي الذي عاش فيها مطلع شبابه، بعد أن حصل على درجة المحاماة من بريطانيا ولم يجد عملاً في مسقط رأسه، فساقه القدر إلى جنوب إفريقيا في العام 1893 بغية المكوث فيها سنة واحدة فقط، لتتضاعف إلى اثنتي عشرة سنة.
ومن مفارقات الصدف أيضاً أن الرجلين العظيمين استخدما نفس السلاح "الفتاك" ألا وهو السلمية، وناضلا بحناجرهما وبالجموع المحتشدة حول المطالب التي طرحاها بصدور عارية، أمام قوة الدولة البوليسية القمعية وجبروتها، والأعجب أن كليهما ظفرا بما أرادا. فقد دافع المهاتما غاندي عن الهنود القاطنين في جنوب إفريقيا حينما وطئ أرضها، بطرق سلمية وضمن أطر القوانين المعمول بها آنئذ، ثم حينما انتقل إلى بلاده (1915) قلب الجماهير الهندية على المستعمر البريطاني، فظفرت "القارة الهندية" باستقلالها.
واتبع نيلسون مانديلا النضال السلمي، وقاد حزب المؤتمر الوطني الذي ظل يرفع شعار القضاء على نظام الفصل العنصري، وأبلى فيه بلاءً حسناً، إذ قضى 27 عاماً في السجن من أجل ذلك الهدف النبيل، وأغلبها في جزيرة روبن، حيث السجن الانفرادي الذي كان الأبغض إلى نفسه وهو القائد الصلب، حيث يقول في مذكراته: "لا نهاية فيه ولا بداية، اللهم إلا ما يقض مضاجع المرء من سؤال يلح على خاطره وهو:
هل اتخذت القرار الصائب؟ وهل تضحيتي لها قيمة". ثم يكتشف سر العظمة الإنسانية وقوتها القاهرة، وهو "التمسك بالمبادئ والمثل والمحافظة على الروح المعنوية العالية، فهي تجعلك تشعر بالشبع حتى لو كانت المعدة خاوية".
ولم يناضل نيلسون مانديلا نظام الأبارتيد حيث استعباد البيض للسود، ليقلبه إلى نظام آخر تكون فيه الغلبة للسود، وهم أصحاب الأرض وهم السواد الأعظم من سكان جنوب إفريقيا، بل ناضل من أجل مجتمع ديمقراطي يعيش فيه البيض إلى جانب إخوتهم السود سواء بسواء. قال ذلك وهو في غياهب سجن روبن في خطاب شهير سرب إلى جماهيره في إبريل 1971، وقرن القول بالعمل حينما أصبح حراً طليقاً عام 1990، وحينما اعتلى كرسي الرئاسة 1994، فعفا عند المقدرة ودعا إلى المصالحة الوطنية، فاستحق عن جدارة جائزة نوبل للسلام.
ومن فضائله أنه تخلى عن السلطة وهو في أوج تألقه، ولم يتشبث بالكرسي كما يفعل عادة زعماء وقادة الثورات، مثل روبرت موغابي رئيس زيمبابوي، ودولته جاره لجنوب إفريقيا، ونضالهما كان لهدف واحد. فموغابي متشبث بالسلطة منذ أن اعتلاها في العام 1987، بينما نيلسون مانديلا العظيم زهد في الكرسي ولم يترشح لدورة ثانية بعد الأولى التي فاز بها في العام 1994. وكان بذا منسجماً مع مبادئه في إحداث مجتمع ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة.
إن المجتمع الإنساني سيتذكر دائماً نيلسون مانديلا، كقائد قدوة، ناضل من أجل مثله العليا ودفع في سبيلها ثمناً غالياً، وقرن القول بالعمل، وجنح للسلم وهو في عز قوته.