تردّد في السنوات الماضية تعبير "البيت الخليجي" إضافةً إلى تسميات "المواطن الخليجي" و"دول الخليج"، وكلّها نشأت بعد إعلان تأسيس "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" في العام 1981. وارتبطت ولادة "مجلس التعاون" بوجود تحدّيات أمنية على الدول الأعضاء.

ورافق ذلك أيضاً حدوث "الثورة الإيرانية" عام 1979 وما حملته من متغيّرات وتحدّيات على مجمل أنظمة المنطقة، ثمّ إشعال النظام العراقي السابق لحربٍ دامية طويلة مع إيران، وظّفتها الولايات المتحدة الأميركية لإضعاف إيران والعراق معاً (تحت سياسة "الاحتواء المزدوج")، ولاستنزاف المال العربي في تلك الحرب، التي تزامنت أيضاً مع استنزاف المال العربي في حرب "المجاهدين الأفغان" ضدّ الاتحاد السوفييتي، وفي شراء كمّيات ضخمة من الأسلحة الأميركية والأوروبية.

وبينما كان يحدث ذلك كلّه في منطقة الخليج العربي، كانت بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) تشهد أيضاً حروباً دامية، بدأت بالحرب الأهلية اللبنانية التي انغمست فيها سوريا والمنظمات الفلسطينية وأطراف عربية أخرى، وصولاً إلى احتلال إسرائيل عام 1982 لأوّل عاصمة عربية (بيروت) ولنصف الأراضي اللبنانية.

أكان ممكناً حدوث هذه التداعيات العسكرية والسياسية الخطيرة في "بلاد الخليج العربي" و"بلاد الشام"، لو لم يحدث الانهيار الكبير في "البيت العربي" نتيجة غياب جمال عبد الناصر، وكمحصّلة لتغييب دور مصر بعد معاهدة "كامب ديفيد"؟! نعم، هناك بدأ تصدّع أساس "البيت العربي"، وانهيار "غرفه" المشرقية والمغربية واحدةً بعد الأخرى.

لقد قامت أشكال مختلفة من مجالس التعاون الإقليمي في المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، لكنّها إمّا انتهت إلى الفشل كما حصل في تجربتيْ مجلس التعاون العربي (العراق، مصر، اليمن والأردن) واتحاد المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس ليبيا وموريتانيا)، أو هي تواجه تحديات الآن كتجربة "مجلس التعاون الخليجي".

لا شكّ أنّ الدول الأعضاء في "مجلس التعاون الخليجي" هي محط أنظار قوى إقليمية ودولية عديدة، فهذه الدول تملك حوالي 40% من نفط العالم، وهي تجني ثروة مالية من ريع النفط تُقدّر الآن بنحو 700 مليار دولار سنوياً، رغم أنّ عدد سكانها هو بحدود 45 مليون نسمة نصفهم من الأجانب. وهذه الأرقام تجعل من بلدان الخليج العربي هدفاً وغنيمة كبرى، منشودة للطامعين بثروات مالية وبمصادر الطاقة الهامّة للعالم كلّه.

لكن استمرار استنزاف المال العربي يحتاج إلى أزمات وحروب في كل المنطقة، وهو ما نراه يحدث في العقود الثلاثة الماضية، دون انتباه إلى أنّ الأمن القومي العربي كان وسيبقى واحداً، وبأنّ اختلاله في مكان سيؤثّر على المكان الآخر، وبأنّ بيضة الميزان في هذا الأمن القومي هي مصر، وبأن الحرص على أمن "بلاد الخليج" أو "بلاد الشام" أو "بلاد المغرب العربي"، يرتبط عضوياً بأمن "بلاد وادي النيل" وبالقاهرة تحديداً، والعكس صحيحٌ أيضاً.

واقع الحال، أنّ الصراعات والخلافات هي صراعات وخلافات وحروب داخلية على امتداد الأرض العربية، وأن مصر مشغولة الآن بأوضاعها الداخلية بينما محيطها الجغرافي، غرباً في ليبيا وجنوباً في السودان وشرقاً في فلسطين وسوريا، منهمك في فوضى داخلية وفي مخاطر التشقق والانقسام.

واقع الحال العربي الراهن يستدعي وقفةً عربية شاملة مع الذات، ومراجعة عميقة لكل المرحلة الماضية، وإدراكاً واعياً لأنّ الكل في هذه المنطقة على سفينة واحدة، وأنّ التجارب الاتحادية العربية الفاشلة في الماضي، يجب أن لا تعني تخلّياً عن مطلب الاتحاد والتكامل العربي الشامل. فبديل ذلك هو التمزّق والانشطار الداخلي، ولن تنفع "الحمايات الأجنبية" في الحفاظ على أي بلد أو شعب أو حكم.

ربما تنتقل منطقة "الشرق الأوسط" بما فيها من عربٍ وفرس وأتراك وإسرائيليين - من مرحلة الحروب الإقليمية ثم الأهلية، إلى مرحلة فرض "نظام شرق أوسطي جديد" تتحقق فيه تسويات لأزمات، وتوزيع لحصص إقليمية ودولية، يكون العرب فيها مسيّرين لا مخيّرين في تقرير مستقبلهم وكيفّية توزيع ثرواتهم. فما زال "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، الذي رافق حقبة التسويات في التسعينات، حيّاً ومنشوداً..

وما زال كتاب "شيمون بيريز" عنه متوفّراً في أسواق صنع القرار الدولية. لقد تحدث بيريز عن أهمية وجود تطبيع عربي/ إسرائيلي ينتج شرقاً أوسطياً جديداً يقوم على "التكنولوجيا الإسرائيلية والمال الخليجي والعمالة المصرية"! فهل ذلك فعلاً هو المستقبل الذي يبتغيه الإنسان العربي من الخليج إلى المحيط؟!

كم هي مصادفة محزنة أن تكون بداية التجربة الاتحادية الأوروبية قد تزامنت مع فترة تأسيس الجامعة العربية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، فإذا بدولٍ لا تجمعها ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، وشهدت في ما بينها في قرونٍ مختلفة حروباً دموية طاحنة آخرها الحرب العالمية الثانية، تتّجه إلى أعلى مستويات الاتحاد والتعاون..

بينما بدا التعاون بين الدول العربية أشبه بمؤشّرات سوق العملة، يرتفع أحياناً ليصل إلى درجة الوحدة الاندماجية بين بعض الأقطار، ثمّ يهبط معظم الأحيان ليصل إلى حدّ الانقسام بين الشعوب والصراعات المسلّحة على الحدود، وإلى الطلاق الشامل بين من جمعتهم في مرحلة ماضية صيغٌ وحدوية؟!

تجربة الاتحاد الأوروبي قامت على المصالح المشتركة وعلى التعاون الاقتصادي أولاً، كمدخل للاتحاد الدستوري الشامل. لكن هذه التجربة قامت ولا تزال على جملة عناصر وشروط، كان أهمّها رفض التدخّل في شؤون البلد الآخر، واحترام إرادة الشعوب داخل هذه البلدان، وبالانسجام بين أنظمة الحكم من حيث البناء السياسي الديمقراطي.

أمّا تجربة جامعة الدول العربية ثم تجارب الاتحادات الإقليمية العربية الأخرى، فكانت تسير بحالٍ معاكس تماماً، فهذه التجارب العربية لم تعتمد في مسيرتها سوى على توافق المواقف السياسية الآنية، أو على تحدّيات طارئة على هذا البلد أو ذاك، سرعان ما تعود العلاقات السلبية بعدها إلى سابق عهدها، إضافةً إلى افتقاد المشاركة الشعبية السليمة في صناعة القرار الوطني، حيث ما زالت المجتمعات العربية تعيش الحالة القبلية والطائفية منذ قرون عديدة.

إنّ تطوير العلاقات العربية ـ العربية في اتجاهٍ أفضل ممّا هي عليه الآن، هو الحلّ الأفضل لكل الدول العربية، بما فيها دول "مجلس التعاون الخليجي"، علماً بأنّ تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، هو المدخل الصحيح لبناء علاقات عربية أفضل، وهو الضمان كذلك لاستمراريّة أي صيغ تعاونٍ عربيٍّ مشترَك.