قمت مؤخراً، مع عدد من محرري صحيفة "هافنغتون بوست"، بزيارة بيل درايتون وماري غوردون. وبيل درايتون لمن لا يعرف، هو مؤسس منظمة "أشوكا" ذات الاهتمامات الاجتماعية، والذي تصدى منذ وقت طويل لتجسيد مفهوم الإدارة الاجتماعية للأعمال، وهو اصطلاح صاغه بنفسه، وانتشر الآن في جميع أنحاء العالم. وماري غوردون هي معلمة حضانة سابقة أسست "روتس أوف إمباثي"، وهي منظمة مكرسة لمحو الأمية الانفعالية، وتطوير مفهوم معرفة الغير والتعاطف معه عند الأطفال، وكانت أيضاً واحدة من مؤيدي مؤسسة أشوكا.

بدأت زيارتنا بالحديث عن ولادة ابن لأحد محررينا، وعند ذلك قدمت له ماري قميصاً رياضياً كتبت على صدره عبارة "معلم معرفة الغير"، وقالت إن مفهوم معرفة الغير، أو التقمص، هو بمثابة طريق ذي مسارين، وأن أفضل طريقة لتغذيته هي عن طريق القدوة، وأضافت: "الحب ينمي الأذهان، ونحن بحاجة إلى أن نوضح للأطفال صورة للحب بينما نربيهم".

والعطاء لا يغذي التقمص فحسب، وإنما هو امتداد لقدراتنا الداخلية على معرفة الغير، وهو أيضاً وحده من المفاتيح الأساسية في مبادرة صحيفة "هافنغتون بوست" القياسية لإعادة تعريف مفهوم النجاح، على نحو يتجاوز مقياسي الثروة والسلطة ليشمل الرفاه، الحكمة، وقدرتنا على الاندهاش والعطاء، وهي أمور تزداد جميعها عندما نعطي وقتنا وجهدنا لشخص آخر غير ذاتنا.

لقد عرف الفلاسفة هذا على امتداد قرون عدة، وفي كتابه "رسائل أخلاقية إلى لوشيلوس"، كتب الفيلسوف سيليكا المنتمي إلى القرن الأول الميلادي: "ما من أحد يمكنه أن يعيش سعيداً بينما هو ينظر إلى نفسه فحسب، ويحول كل شيء ليكون في خدمة منفعته الخاصة". وفي كل عرف وممارسة دينيين عملياً، فإن العطاء يعد خطوة رئيسية على طريق التحقق الروحي، أو كما عبر أينشتاين: "الحياة التي تعاش من أجل الآخرين، هي وحدها الحياة التي تستحق أن تعاش".

ومنذ آينشتاين والعلماء يحاولون الخروج بـ"نظرية لكل شيء"، من شأنها أن تفسر عالمنا الفيزيائي كله، من خلال التوافق بين نظرية النسبية العامة وفيزياء الكم. وفي دراسة عالمنا الانفعالي، ليست هناك نظرية قياسية لكل شيء، ولكن لو أن هناك مثل هذه النظرية، فسيشكل التقمص والعطاء محورها. وقد أكد العلم الحديث بصورة كاسحة، حكمة أولئك الفلاسفة الأوائل وتلك الأعراف الدينية.

وقدد كتب جوناثان هيدت يقول في كتابه "فرضية السعادة" إن "الاهتمام بالآخرين غالباً ما يكون أكثر فائدة من تلقي العون، ونحن بحاجة إلى التفاعل، والأخذ والعطاء مع الآخرين، ونحتاج إلى أن ننتمي".

وقد فسر العلم لماذا يعد ذلك ضرورياً، فهناك مكون مهم هو عبارة عن جزيء التعاطف، وهو هرمون يعرف باسم "أوكسيتوسي"، ويعروف أيضاً باسم هرمون الحب و"عقار الحب" و "الجزيء الأخلاقي". وهذا لم يأت دون سبب، فهو ينطلق بصورة طبيعية في أجسامنا خلال تجارب مثل الولادة والوقوع في الغرام. والمستويات الأعلى من الأوكسيتوسين ترتبط بالرغبة والقدرة على التواصل الاجتماعي، أما المستويات المنخفضة منها، فترتبط بأوضاع مثل الاكتئاب والتوحد.

وقد وجد الباحثون أن تناول الأوكسيتوسين يمكن أن يخفض القلق ويخفف الخجل، وقد أظهرت دراسة أجراها عالم الأعصاب بول زاك، أن من شأن رشة بخاخة من هذا الهرمون، أن تزيد من مقدار المال الذي يتبادله المشاركون في التجربة أو يقدمه أحدهم للآخر، وقال: "إن الخطايا السبع القاتلة لا تزال قاتلة لأنها تفصلنا عن الناس، وهي جميعها تدور حول وضع المرء لنفسه قبل الآخرين".

غير أن اصطلاح "الإعادة" يمكن أن يكون مضللاً، فهو يفترض أن الخدمة والتطوع يكونان مهمين فقط من حيث ما يفعلانه للمجتمع أو للمتلقي، ولكن من المهم بالقدر نفسه ما يفعلانه للمعطي أو المتطوع.

وفي بداية العام الجاري، وجدت دراسة أجرتها الدكتورة سوزان ريتشاردز من كلية الطب في جامعة إكستر، أن التطوع مرتبط بمعدلات أقل للاكتئاب، وبمعدلات أعلى للرفاه، وبانخفاض ملموس في معدل الوفاة. كما وجدت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد في 2005، أن أولئك الذين يتطوعون يتمتعون بصحة أفضل من الذين يحجمون عن التطوع.

وقد أكد لنا بيل درايتين، أن التقمص يصبح بصورة متزايدة مصدرنا الأولي للتعامل مع معدلات التغيير في العالم من حولنا. وقال: "إن السرعة التي يقترب بها المستقبل منا بمعدلات متسارعة، هي بمثابة المنظور للتغير المستمر في السياقات، وتقتضي منا المهارات الأساسية المتعلقة بالتقمص المعرفي".

وأفضل طريقة لبناء تلك المهارة الأساسية، هي أن نمد الجسور نحو الآخرين، والتعاطف والعطاء لا ينبغي بالضرورة أن يشملا بناء بيوت في جزء ناء من العالم، وإنما قد يشمل ببساطة مساعدة الناس من حولك، وهو لا يتضمن إعطاء النقود فحسب، إنما الأمر كما عبرت عنه لورا آرلاغا أندرسون في كتابها "عطاء 2.0"، قد يشمل مساعدة العاملين المهنيين في نشاط الأعمال، على التبرع بمهاراتهم في مجالات مثل التخطيط الاستراتيجي أو الإدارة أو التسويق.

لقد أتاحت لنا التكنولوجيا أن نكون فقاعة منفصلة ومحتوية لذاتها على امتداد 24 ساعة يومياً، حتى فيما نحن نمضي في الطريق وسط الناس، وقد يبدو أن الأجهزة التقنية التي نحملها تحقق التواصل بيننا، ولكنها في حقيقة الأمر تفصلنا عن الآخرين، الذين من غيرهم يصعب تنشيط احتياجنا الشديد إلى التقمص.