لماذا هذه الغضبة الأميركية على حاضرة الفاتيكان؟
في أواخر شهر نوفمبر المنصرم، كانت الإدارة الأميركية تعلن عن نقل مكاتب سفارتها في الفاتيكان إلى سفارتها في روما، رغم أن تلك السفارة كانت بمثابة مفتاح للوساطة مع العديد من الدول والحكومات والسلطات حول العالم، ولا سيما مع دول منطقة الشرق الأوسط.
التبرير الأميركي لهذا الحدث المثير، اتخذ من قصة الأسباب الأمنية ستاراً للإجراء الذي سيتم في نهاية العام 2014 ومع بداية العام 2105. غير أن واقع الحال يشير إلى أزمة حقيقية مكبوتة بين واشنطن والفاتيكان، ومواجهة ما بين أفكار الهيمنة والسيادة على العالم وإشعال الحروب حول الأرض، وبين البابا الفقير الساعي لتحرير الإنسان والأوطان من رباطات الأنظمة الاستعبادية.
هل بابا الفاتيكان الذي لم يكمل عامه الأول والذي اعتبرته مجلة التايم الأميركية أخيراً "صوتاً جديداً للضمير" هو السبب وراء تصاعد هذه الأزمة؟
بحسب "نانسي غيبس" مديرة تحرير مجلة التايم، فإنه "نادراً ما اجتذبت شخصية جديدة على الساحة العالمية مثل هذا الاهتمام بهذه السرعة، من الشبان والمسنين المؤمنين وغير المؤمنين، مثلما فعل البابا فرانسيس".
هل لهذا كان قرار الخارجية الأميركية وكأنه نوع من الإهانة المتعمدة للكرسي الرسولي؟
يبدو أن ذاكرة الأفيال الأميركية لم تنس السلوك الدبلوماسي للفاتيكان، في الأشهر التسعة الأخيرة التي ترأس فيها فرانسيس الأول السدة البطرسية، وفي المقدمة من هذه المسالك الانفتاح الكبير على روسيا حكومة وكنيسة، والرسالة التي وجهها بنوع خاص بابا روما للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال ترؤسه قمة العشرين، والتي حثه فيها على السلام العالمي، وقد كان لها ولا شك تأثير واضح على مقدرات الأمور في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي الأزمة السورية بنوع خاص.
هو بابا كاريزماتي إذن، بابا للفقراء، وفي الوقت ذاته هو المثقف اليسوعي الذي يجيد فهم مشكلات العالم الآنية، ويرفض تسليع الإنسان كما تبغي الدوائر الرأسمالية الأميركية.
في أول وثيقة له كبابا للكنيسة الكاثوليكية، والتي جاءت تحت اسم "فرح الإنجيل" (Evangelii Gaudium)، انتقد البابا الظلم الاقتصادي العالمي بالقول: "إن الشعوب الفقيرة متهمة بالعنف، ولكن من دون تقديم فرص متساوية سيجد مختلف أشكال العدائية والخلاف أرضاً خصبة للنمو أو حتى احتمال الانفجار"، ويضيف "طالما لم يتم إلغاء الإقصاء الاجتماعي وعدم المساواة الاجتماعية في المجتمع وبين مختلف الشعوب، فسيكون من المستحيل استئصال العنف".
يزعج الأميركان أن يكون على رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بابا يطالب بالتوصل إلى حل عادل ودائم للصراع في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تستمر فيه الألاعيب الأميركية الإسرائيلية عبر مفاوضات واهية وهمية.
ويزعج العم سام أيضاً وصول بابا إلى السدة البطرسية يهتم بإصلاح شؤون العلاقات بين العالمين الكاثوليكي والإسلامي، وآية ذلك زيارة سكرتير المجلس البابوي للحوار بين الأديان في الفاتيكان، الأب "ميغيل أنخيل ايوسون" أخيراً للأزهر الشريف، في محاولة جادة ومخلصة لاستعادة العلاقات الثنائية كاملة، بعد توقف من جراء سوء تفاهم ساد بين الجانبين في الأعوام القليلة المنصرمة.
هذه الجزئية تحديداً تقودنا إلى إشكالية أعمق، فالفاتيكان وعلى لسان البابا فرانسيس، يتحدث عن مسيحيي الشرق الأوسط، المسيحيين العرب، بوصفهم شركاء في صناعة الحضارة العربية والإسلامية، ولهذا ينادي من جديد بالسلام والحرية الدينية في المنطقة التي تنزل فيها الوحي الإلهي على الإنسانية.
غير أن هذا التوجه لا يرضى عنه ساكن البيت الأبيض، والذي تقود كل مخططاته الظلامية لتفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه، لتضحى دوله دولاً دينية بالمطلق، وفي هذا الحال لا يستطيع أحد أن يعترض على وجود إسرائيل كدولة دينية يهودية في المنطقة.
في الاحتفال الأخير باليوم العالمي لحقوق الإنسان، دعا فرانسيس الأول الجميع ليكونوا صوت المتألمين، ويتجنبوا الهدر والتبذير ويعملوا كعائلة واحدة، واعتبر أن "الإنسانية تعيش فضيحة عالمية، إذ إن هناك حوالي مليار شخص يعانون الجوع في يومنا هذا، ولا يمكننا أن نلتفت إلى الجهة الأخرى ونتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن، لأن الغذاء الموجود في العالم يمكنه أن يشبع الجميع".
هل نحن إزاء بابا يساري اشتراكي؟
هذا ما روج له بعض وسائل الإعلام الأميركية، لا سيما تلك التي تمثل صوت المحافظين، وقد أخذوا على البابا قوله في إحدى عظاته الأخيرة "إن حب المال قد يؤدي إلى طغيان جديد"، مهاجماً فكرة إعفاء الأثرياء من الضرائب بالقول "إنها فكرة تعكس ثقة فجة وسذاجة، لصالح من يسيطرون على القوى الاقتصادية".
مثير جداً شأن الازدواجية الأخلاقية الأميركية، والتي ستقود أميركا ولا شك إلى انهيار إمبراطوري بدأت ملامحه في الأفق. فالفاتيكان الذي تسعى اليوم إدارة أوباما إلى نقل سفارتها منه، هو الذي نسقت معه طوال فترة الحرب الباردة لمواجهة الشيوعية..
وبلغ التنسيق ذروته في عهد رونالد ريغان، عندما كان وليام كيسي مدير الاستخبارات المركزية الأميركية والتلميذ النجيب لمدارس اليسوعيين الكاثوليك في أميركا، يجثو على قدميه مقبلاً يدي البابا يوحنا بولس الثاني، والذي كان بالفعل المسمار الأخير الذي دق في نعش الشيوعية مرة وإلى الأبد.
لن يضير الفاتيكان نقل سفارة الأميركان إلى روما، فالخاسر الأكبر ولا شك هم "مدراء الاستخبارات المباركين".. ومن يريد فهماً أعمق لهذه العبارة، عليه أن يرجع إلى الكاتب الإنجليزي توماس جوردن، في مؤلفه الكبير والخطير "جواسيس جدعون".