اتصل بي صديق من القاهرة بعد انتهاء الاستفتاء على الدستور، ليخبرني عن الأجواء وانطباعاته الميدانية حول نسبة المشاركة، من واقع المنطقة التي أدلى فيها بصوته، وهي عين شمس في مصر الجديدة، فقال: ذهبت باكراً من الساعة السابعة صباحاً، وإذا بطابور طويل أمامي، فوقفت في الطابور إلى أن بدأ المستفتون في الدخول إلى قاعة الاقتراع.

ثم أضاف: ظللت في الطابور الطويل من تلك الساعة (السابعة صباحاً)، إلى الساعة السادسة مساءً، حيث تسنى لي الدخول إلى القاعة والإدلاء بصوتي! قلت له متعجباً (ومتشككاً في دواخل نفسي): وهل وقفت طوال الوقت في الطابور؟ فقال: كلا، بل كنت أستأذن من هو أمامي وخلفي في الدور، لأذهب إلى دورة المياه أو لتناول سندويتش أو غير ذلك، ثم أرجع إلى دوري المحفوظ، وكان "الكل يعمل كده".

في الحقيقة أراحني كلامه، فهو شخص ليس بسياسي، وليس "بمثقف" لو أخذنا الثقافة بمعنى قراءة الكتب وسعة الاطلاع وغير ذلك، أو حتى المداومة على قراءة الصحف والمجلات. إنه شخص بسيط عادي، يعمل في البناء (المساح)، وتعرفت إليه حينما عمل في بناء بيتي، من جملة عمل، قبل عقد ونصف العقد، وربطتني معه علاقة وثيقة منذئذ، وهو من المصريين، الذين عملوا في بلاد عربية عديدة، بدءاً بليبيا، ولبنان، والعراق، ثم أخيراً الكويت، ثم عاد راجعاً إلى بلده مصر، بعد غربة دامت أكثر من ثلاثين سنة.

لكن قبل أن يتصل بي هذا الصديق مشكوراً من أرض الكنانة، ليخبرني عن تجربته الشخصية من واقع منطقته الخاصة، كنت أتابع على الفضائيات المختلفة، وعلى رأسها الـ(بي بي سي) (بنسختيها العربية والإنجليزية)، التي تحمل تقاريرها عندي مصداقية كبيرة، أقول: كنت أتابع عملية الاقتراع لأحلل اجتماعياً أولئك الذين ذهبوا ليدلوا بأصواتهم للدستور الجديد، وليتحدّوا - وسط التهديد والوعيد - كل المخاطر التي كان من الممكن أن يتعرضوا لها شخصياً.

ومن واقع تلك المشاهدات أستطيع الخروج بانطباعات عدة أولية، هي بالطبع تحتاج إلى مزيد من التحليل العلمي، حين تتوفر البيانات الرسمية المفصلة.

الانطباع الأول أن كبار السن كانوا في مقدمة الركب، وخاضوا غمار الإدلاء بأصواتهم في الصفوف الأمامية، وكأنهم في معركة حقيقية، يريدون من خلالها إرسال عدة رسائل لمن سيتسلمون شرف تطبيق الدستور المستفتى عليه، ولعل أبرزها رغبتهم القوية في عودة مصر إلى حالة الاستقرار، وإلى تحريك عجلتها من جديد. وربما كانت ثمة رسائل خفية أخرى تسترعي انتباه الجمهورية الجديدة، مفادها أهمية رعاية المسنين والاهتمام بتحسين أوضاعهم وحفظ كرامتهم، بمعاشات تقاعدية مناسبة، وبخدمات صحية لائقة.

أما الانطباع الآخر فكان كثافة مشاركة المرأة من كل المستويات الثقافية والتعليمية، وبالذات من كبيرات السن أيضاً، ولعل ما دفعهن، فضلاً عما قيل، هو أن الدستور الجديد قد أنصفهن أكثر من الدستور السابق، ما يفرض على السلطة الجديدة تجسيد مبادئ الدستور تلك إلى قوانين تدفع بالمرأة المصرية إلى الأمام، في مجالات العمل والمناصب والترقيات والتعليم والتمثيل الشعبي والنقابي، وفي حقوق الأمومة وغيرها.

لا أريد أن أكرر في ملاحظتي السريعة الأخيرة، ما قد ذكر كثيراً في وسائل الإعلام، ومن أفواه أغلب المعلقين، وهو غياب الوجوه الشابة، وهي الوجوه التي صنعت ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو، وأدخلت مصر في عهد جديد. ومهما يكن السبب أو جملة الأسباب لهذا العزوف، فإن المرحلة الجديدة تتطلب معالجته، علماً بأن مصر أمام استحقاقين مهمين: رئاسي وبرلماني، وغياب عنصر الشباب فيهما يشير إلى خلل بنيوي، خاصة لو علمنا أن مصر مجتمع شاب من حيث التركيب العمري لسكانه.

إذا كانت مصر قد عدّت استحقاق الدستور على خير، فإن الكل في انتظار الاستحقاقين القادمين مع أمل أن تسودهما المنافسة النزيهة والشريفة، وأن يلعب إعلام الثورة دوره التنويري، في إيصال كل وجهات النظر بشكل حيادي وموضوعي، مع شفافية عالية في الحملة الانتخابية، وفي عملية الاقتراع.