مع انعقاد مؤتمر جنيف بين المعارضة السورية والنظام الحاكم في دمشق، ظهرت أولى بوارق الأمل على صعيد منطقتنا العربية، وربما أهمها على الإطلاق. فلئن كانت بلاد الربيع العربي عانت ولا تزال تعاني جراء مخاض ثورات شعوبها، فإن مخاض الثورة السورية كان ولا يزال هو الأعسر والأعنف، حيث تحول من ثورة سلمية إلى حرب أهلية أزهقت أرواح ألوف السوريين الأبرياء، وخربت أجزاء واسعة من البلاد، ودفعت بالملايين للتحول إلى لاجئين، وهي فوق هذا وذاك تنذر لو استمرت بتقسيم هذه الدولة الواحدة بحدودها المعروفة، إلى دويلات.

يأتي الطرفان، ومن ورائهما الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، وهما مدركان أن الحسم العسكري لا يمكن تحقيقه. فلا النظام قادر على وقف الثورة المسلحة ضده بمساعدة أصدقائه، وهم روسيا وإيران وحزب الله، ولا المعارضة في المقابل قادرة على تحقيق نصر عسكري، بسبب تغير موقف حلفائها، وبالذات الولايات المتحدة، من تسليحها بسلاح نوعي يقلب موازين القوى على الأرض، خشية أن تقع تلك الأسلحة الفتاكة في أيدي فصائل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وعلى رأسها داعش وجبهة النصرة وغيرهما.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة، يدرك الطرفان أن "الواقعية" هي السبيل للوصول إلى حلول مقبولة من الطرفين، تجنب الشعب السوري مزيداً من إراقة الدماء والمعاناة، داخل الوطن أو في بلدان الشتات. ويدرك الطرفان أن هذه المفاوضات ليست مفاوضات "للاستسلام وإملاء الشروط"، بل هي مفاوضات شعارها "ما كل ما يتمناه المرء يدركه" و"ما لا يدرك كله لا يترك جله". إنها باختصار مفاوضات سياسية، والسياسة هي فن الممكن. وعلى ذلك، فهي ستكون طويلة ومتعرجة، ويكتنفها الكثير من المناورات السياسية و"الأخذ والرد" وغيرها.

وحسناً فعل الأخضر الإبراهيمي - المفاوض العربي المحنك - حينما بدأ تلك المفاوضات بعلاج المستعجل من القضايا الإنسانية، ومنها فك حصار بعض أحياء حمص وإنقاذ أهلها من الموت جوعاً. وهذه الخطوة وإن كانت في نظر البعض صغيرة، إلا أنها ستعطي بارقة أمل ورجاء لكل المحاصرين في الربوع السورية، وعددهم بالآلاف المؤلفة، بأن حياة جديدة قد كتبت لهم.

ولعل إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين والمختطفين والمفقودين لدى الطرفين، هي أيضاً من الأولويات الإنسانية. وهذه المهمة بالنسبة للنظام أسهل وأيسر تحقيقاً، إذ هو يعلم علم اليقين مصير من اعتقلهم، لكن الصعوبة تكمن في أسرى النظام لدى المعارضة، أو الأبرياء الذين وقعوا في قبضة الجماعات المتشددة كداعش، والذين أصبحوا من ضحايا فتاواها التكفيرية، علماً بأن البعض من هؤلاء من الأجانب، من قبيل مراسلي وكالات الصحافة العالمية والعاملين في المنظمات الإنسانية، وقد يكونون من المواطنين السوريين كالقساوسة والرهبان والراهبات وغيرهم.

وإذا ما نجحت الخطوات الإنسانية الأولية، فإنها ستخلق جواً متفائلاً في الداخل السوري وفي مخيمات اللجوء، وهي أيضاً ستحسن من جو المؤتمر وتنقله من المفاوضات غير المباشرة عبر الأخضر الإبراهيمي كوسيط، إلى المفاوضات المباشرة، إذ إن غاية الطرفين هي الوصول إلى حل، سواء جاء ذلك الحل بقناعتهما الذاتية، أو نتيجة الضغط الدولي، أو قراءة سليمة لميزان القوى.

ولعل بارقة الأمل الأخرى المبشرة، هي تلك التي جاءت من مصر بعد نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد، وإعلان الرئيس المؤقت عدلي منصور تعديل خارطة المستقبل، لتكون الانتخابات الرئاسية أولاً ثم تليها الانتخابات البرلمانية.

وإلى كتابة هذه المقالة لم يعلن أي مرشح رسمياً خوضه لهذه الانتخابات، لكن المتداول أن الفريق (الذي رقي إلى رتبة مشير) عبد الفتاح السيسي، سيكون أبرز الأسماء، والأرجح أنه الأكثر حظاً للفوز بها.

ومهما يكن من أمر، فإن المطلوب هو المنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص بين المرشحين، لكي تكون أساساً لرضى الجميع عن النتيجة.

أما آخر تلك البوارق، فهو إقرار الدستور التونسي بأغلبية برلمانية مطلقة، وهو دستور توافقي يعبر عن تطلعات الشعب التونسي في مستقبل زاهر في ظل تعددية حقيقية. وتونس التي كانت شرارة الربيع العربي، أثبتت بإقرار هذا الدستور أنها تجربة ناضجة في التحول نحو الديمقراطية.