تساؤلات عديدة تدور الآن حول الحراك الدبلوماسي، الذي قام ويقوم به وزير الخارجية الأميركي جون كيري بشأن "الملف الفلسطيني"، وعلى ما يمكن أن يتوصّل إليه من إعلان "اتفاق إطار" جديد بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

فمنذ تولّيه مهام وزارة الخارجية قبل نحو عام، يكرّر الوزير الأميركي زياراته للمنطقة، وقد استطاع دفع السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، دون شرط تجميد بناء المستوطنات. ويعمل كيري الآن على إيصال هذه المفاوضات إلى نتيجة، قبل انتهاء السقف الزمني المحدّد لها بعد شهرين تقريباً.

طبعاً حركة الوزير كيري وتصريحاته حول مسار هذه المفاوضات، حصدت الكثير من النقد والتشكّك في الوسطين الفلسطيني والإسرائيلي، كان من ضمنهما ما قاله يوفال شتاينتز، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، الذي شبّه الوزير كيري بـ"من يُصوّب بندقية إلى رأس إسرائيل"، وقبل ذلك موشي يعلون وزير الدفاع في حكومة نتانياهو، وهي بمجملها تحذّر من "مخاطر" قيام دولة فلسطينية وأثر ذلك على المستوطنين، كما تنتقد هذه التصريحات الإسرائيلية، إشارات وزير الخارجية الأميركي إلى وجود حملة دولية متصاعدة لمقاطعة إسرائيل إذا لم تتوصّل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.

تُرى، ما هو سبب هذه المواقف الإسرائيلية الناقدة لواشنطن، بينما ما يتمّ تسريبه من معلومات عن مضمون "اتفاق الإطار" لا يحقّق حتّى الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة؟! يبدو أنّ مراهنات حكومة نتانياهو، لا تريد حتّى مبدأ وجود دولة فلسطينية بغضّ النظر عن التفاصيل، وهي راهنت ولا تزال على عناصر الضعف والانقسام في الجسمين الفلسطيني والعربي، وتريد توظيف ما يحدث الآن من صراعات عربية داخلية لمزيد من التهويد والاستيطان، بحيث لا يكون هناك مستقبلا ما يمكن التفاوض عليه مع الفلسطينيين.

لكن هل هذه الخلافات الأميركية ـ الإسرائيلية بشأن مشروع الدولة الفلسطينية، تعني أنّ ما تقدمه واشنطن للفلسطينيين يمثل عروضا ومقبولة من ملايين الفلسطينيين الذين شرّدتهم إسرائيل واحتلّت أرضهم منذ أكثر من ستّة عقود؟!

ما جرى تسريبه حتّى الآن من نصوص، يناقش الأميركيون مضمونها مع مفاوضين فلسطينيين وإسرائيليين، لا يشجّع الفلسطينيين على الحماس لها أو حتّى قبولها. فما نُشر من بنود لهذا "الاتفاق - الإطار" يتضمّن انسحاباً إسرائيلياً من الضفة الغربية على مراحل ولسنوات، على أساس حدود عام 1967، لكن مع "تبادل للأراضي" بحيث تبقى في الضفة المستوطنات اليهودية الكبرى خاضعةً للسلطة الإسرائيلية، مقابل أراضٍ تُمنح للدولة الفلسطينية من داخل إسرائيل.

وتشمل بنود الاتفاق جعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لكن ضمن المناطق التي فيها كثافة سكان فلسطينية فقط. أي عملياً، لن تكون هناك استعادة كاملة للأراضي الفلسطينية التي احتلّت عام 1967، وكذلك بالنسبة للقدس الشرقية، لكن يحصل الفلسطينيون على "دولة فلسطينية عاصمتها القدس"، وستكون هذه الدولة "منزوعة السلاح"، وفيها تواجد عسكري أميركي وشبكة إنذار مبكّر أميركية على طول الحدود بين الدولتين.

وعلى الفلسطينيين في المقابل الاعتراف بإسرائيل كـ"دولة قومية للشعب اليهودي"، وحل قضية اللاجئين من دون المسّ بالطابع اليهودي لإسرائيل، وذلك من خلال عودة نسبة محدودة منهم، توافق عليهم إسرائيل، على أن يتمّ "توطين" الأعداد الكبرى من اللاجئين في بلدان تواجدهم الحالية، مع دفع تعويضات تمكّنهم من العيش كمواطنين في تلك البلدان. وسيسري "مبدأ التعويض" أيضاً على اليهود العرب الذين هاجروا إلى إسرائيل. أي سيتمّ وضع اللاجئ الفلسطيني الذي طُرد من أرضه ووطنه، في مستوًى واحد مع اليهودي العربي الذي هاجر إلى إسرائيل ليأخذ منزل الفلسطيني المهجَّر وليقيم "دولة إسرائيل" على أرض فلسطين!

الأخطر في ما يحدث حالياً، هو هذه المراهنات على سوء الأوضاع العربية والفلسطينية، من قبل الطرفين الإسرائيلي والأميركي. فحكومة نتانياهو منذ وجودها مطلع 2009، ترفض الدخول في تسويات نهائية بشأن القضية الفلسطينية، وعملت جاهدة على إفشال الحراك الأميركي الذي قام به جورج ميتشل، وسعت وما زالت لجعل الصراع مع إيران أولاً، ولتوريط الولايات المتحدة في حرب عسكرية ضدّها، بحيث تتوالد مناخات لصراعاتٍ طائفية دامية في العالمين العربي والإسلامي، تُهمّش نهائياً القضية الفلسطينية، وتُبرّر وجود دويلات طائفية ومذهبية في المنطقة.

كما استفادت إسرائيل وتستفيد كثيراً من التداعيات السلبية التي رافقت الانتفاضات الشعبية العربية، ومن ظواهر العنف الطائفي الدموي الذي يحصل الآن في عدّة بلدانٍ عربية، من جماعاتٍ ترفع شعارات دينية إسلامية، وتخدم في أعمالها الإرهابية السياسة الراهنة لحكومة نتانياهو.

على الطرف الأميركي، نجد إدارة أوباما، التي تزامن وجودها مع وجود حكومة نتانياهو، تسعى أيضاً لتوظيف واقع الحال العربي والفلسطيني، لكن من أجل تحقيق أجندة تسويات شاملة لكلّ أزمات منطقة الشرق الأوسط، وفقاً للرؤى والمصالح الأميركية، والتي تراعي حتماً أمن دولة إسرائيل بغضّ النظر عن الحاكم فيها. وفي صلب هذه الأجندة، فرض صيغة تسوية نهائية للصراع العربي/ الإسرائيلي، وفي مقدّمته القضية الفلسطينية. لكن كانت مسألة مصير الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، ولا تزال، هي العقبة الأكبر أمام أي مشروع تسوية لهذا الصراع.

في الحالتين، الإسرائيلية والأميركية، لا اعتبار قائماً لموقف فلسطيني موحّد، ولا طبعاً لموقف عربي موحّد أو لضغوطات عربية فاعلة تُحسّن الشروط الفلسطينية في المفاوضات. فالضغوط تحصل فقط من الجانب الإسرائيلي على إدارة أوباما، التي تمارس بدورها ضغوطاً على الجانب الفلسطيني الفاقد لأيِّ دعمٍ عربيٍّ فاعل، أو لإجماع فلسطيني، والأعزل من سلاح المقاومة، والمحتاج للدعم المالي الأميركي لاستمرار السلطة التي كانت صنيعة توافق "أوسلو"، الذي جرى إعداده في الخفاء، ولم يحقّق للفلسطينيين شيئاً هامّاً بعد أكثر من عشرين سنة على توقيعه.

فهل يكرّر التاريخ نفسه الآن مع "اتفاق إطار" سيقوم على "انقسام مضمون"؟!