ربما كانت مقولة أبعدوا الرياضة عن السياسة، تدور في خلد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يعلن افتتاح الدورة الثانية والعشرين للألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي، الواقعة على البحر الأسود في منطقة القرم. غير أن المشروع برمته كان رهاناً من بوتين على إعادة مجد روسيا، الذي فقدته إثر انهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر القرن الماضي.
فقد كلف الإعداد لهذا الأولمبياد مبالغ غير مسبوقة، وصلت إلى 50 مليار دولار، مع تجنيد أربعين ألفاً من رجال الأمن والشرطة، لبث الأمان وطمأنة المشاركين من جميع أنحاء العالم، وبالذات من الأقطار المتقدمة، أن تهديدات الإرهابيين الشيشان وغيرهم، لن تكون إلا مجرد محاولات تخويف للدول من المشاركة.
وحقاً، كان افتتاحاً رائعاً، عنونت "سي إن إن" الأميركية تقريرها عنه بقولها: "روسيا تبهر العالم بافتتاح أولمبياد سوتشي 2014".
ولمَ ذهبنا لنقتبس من إحدى وسائل الإعلام الأميركية الكبرى؟ لأن هذه الوسائل دأبت منذ مدة طويلة على التشكيك في قدرة روسيا بقيادة بوتين، على أن تنظم دورة تكون بمستوى الدورات السابقة. وهذا الموقف من الإعلام الأميركي تحديداً والغربي بشكل عام، يذكرني بموقفهما من أولمبياد عام 1980، الذي أقيم زمان الاتحاد السوفييتي في موسكو صيف ذاك العام، وافتتحه الرئيس حينها ليونيد بريجنيف. فعلاوة على تشكيكها في قدرات "الاتحاد السوفييتي" على تنظيم دورة أولمبية بمقاييس عالمية، كانت تثير شتى أنواع المشاكل من قبيل حقوق الإنسان والأقليات وغيرها.
وقد جاءت تلك الدورة في أعقاب دخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان، فقاطعها بتلك الحجة 60 رئيس دولة، أغلبهم من دول الأميركتين وأوروبا. ولم تسلم دورة هذا العام من المقاطعة أيضاً، ولكن بحجج مختلفة، وبعضها واهٍ، من قبيل حقوق المثليين! أما حقيقة المقاطعة، وبالذات من الرئيس الأميركي أوباما، فهي الخشية من عودة روسيا كقوة يحسب لها حساب على المسرح الدولي.
والحق أننا لسنا بحاجة إلى شهادة "سي إن إن" كي نقتنع بأن الافتتاح كان أكثر من رائع، فقد شاهده أكثر من ثلاثة مليارات من البشر وكنت أحدهم وأعجبت بحسن التنظيم والترتيب واللوحات الفنية التي قدمت من آلاف المتطوعين الروس، والعروض الجميلة التي خلبت الألباب. وهذه العروض كانت رسالة روسيا الجديدة، بأنها تضع قدمها ثانية وبقوة على المسرح الدولي.
فمن مشاهد لبطرس الكبير وهو يأمر بنقل عاصمة دولته إلى الجانب الأوروبي على بحر البلطيق، ويسميها سان بطرس بيرغ، معلناً دخول روسيا إلى الحظيرة الأوروبية بثقافتها الرائدة آنئذ، أي قبل ثلاثمئة عام تقريباً، إلى الثورة الاشتراكية التي وضعت أسس بنية تحتية ضخمة، جعلت الاتحاد السوفييتي منافساً رئيساً لأميركا، ثم انتهاء بالعهد الجديد، حيث يحاول الروس أن يستعيدوا أمجادهم بثورة تقنية تضاهي ما يجري في العالم.
حجم المشاركة أيضاً، يبين ضخامة الحدث وأهميته. فعدد الرياضيين يربو على ستة آلاف ينتمون إلى 85 دولة، وثمة 1650 رياضياً من ذوي الإعاقة يتبعون 45 دولة. والمنافسة على 98 مسابقة تندرج تحت 15 رياضة، تضم 1500 ميدالية ذهبية وفضية وبرونزية. ونقلاً عن السي إن إن (7/2)، فإن صنع هذه الميداليات قد تطلب 3 كيلوغرامات من الذهب الخالص، وأكثر من 2000 كيلوغرام من الفضة، و700 كيلوغرام من البرونز.
ترى، هل تستحق هذه التكاليف الباهظة إقامة مثل هذه الدورة؟ وهو سؤال دأبت الصحافة الغربية على توجيهه لروسيا ولزعيمها بوتين، متهمة إياه بتبذير أموال الشعب الروسي.. وهذا سؤال حاول مراسل "بي بي سي" (7/2)، أن يستقصيه من مواطنين روس يسكنون في مدينة شمال موسكو، أقيم فيها بعض الألعاب الأولمبية في عام 1980، فوجدهم في توق إلى بدء الألعاب الأولمبية الجديدة. وقد خلص المراسل إلى القول إن "الروس سيهتمون بعدد الميداليات التي ستفوز بها روسيا، أكثر من اهتمامهم بالأموال التي تكلفها الأولمبياد".
ولعل لسان حال هؤلاء الروس يقول: رجاء أبعدوا الرياضة عن السياسة!