هناك بلا شك إيجابياتٌ عديدة لظاهرة الانتفاضات الشعبية العربية التي حدثت قبل ثلاث سنوات، لكن غيوم السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. فالأمل كان في حدوث تغييرات سياسية تصبّ في صالح الأوطان ووحدتها وهُويّتها العربية، وفي الحفاظ على نهج المقاومة ضدّ إسرائيل، لا أن تسير الأمور لصالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.
فهناك خوفٌ الآن على البلدان العربية التي شهدت هذه الانتفاضات الشعبية، خوفٌ على نفسها وعلى وحدة أوطانها وشعوبها، وعلى أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي. وهذا الخوف مشروعٌ طالما أنّ المنطقة ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية، بينما يغيب تماماً أيُّ"مشروع" عربي، ومع حضور "مشاريع" غير العرب لمستقبل أوطان العرب.
لقد أشرتُ مع بداية ثورتيْ تونس ومصر مطلع 2011، إلى أنّ الثورات هي أساليب يرتبط نجاحها بتوفّر القيادات المخلصة والأهداف الواضحة والبناء التنظيمي السليم. وناشدت الجامعةَ العربية، ومصرَ تحديداً، في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة الليبية، بالتدخّل لصالح الثورة والشعب الليبي قبل أن يتدخّل الأجانب، وقبل أن تصبح ليبيا أمام مخاطر التدويل والتقسيم. وأيضاً، كتبت عن "المتغيّرات" العربية التي تحدث في ظلّ "ثوابت" ظروف وصراعات في المنطقة، والتي منها التحدّي الإسرائيلي ومراهناته على إضعاف الثورات العربية بتفتيت شعوبها وأوطانها، وبفِتَن على "الجبهة الشرقية" تُضعف نهج المقاومة في لبنان وفلسطين.
فالثورات العربية حدثت بينما أوطان هذه الثورات تقوم على مفاهيم وأفكار وممارسات طائفية ومذهبية وقبلية وإثنية، تؤذي الثورات والقائمين بها، ولم يكن هناك سياج وطني عام، يحميها من شرور بعض القوى المحلية أو الأطراف الخارجية ذات المصلحة في إحداث فتن داخلية.
والمنطقة العربية كانت، ولا تزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دولها، ولم تؤدِّ بعدُ التغييرات التي حدثت إلى إعادة التضامن العربي على أسس سليمة، تضامن تصبح المنطقة، في غياب حدِّه الأدنى، فارغةً من أيّ رؤية أو "مشروع" عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً في سياساتها وأوضاعها، حتى لو أدّت الثورات إلى جعلها مُخيَّرةً شكلاً في أمورها الداخلية.
الآن أجد المنطقة العربية "مخيَّرة" بين مشروع أميركي وآخر إسرائيلي، وهما يتقاطعان في مناطق اتفاقٍ مشتركة ويختلفان في أخرى. فالمشروع الإسرائيلي يراهن على صراع عربي/ إيراني في الخارج الإقليمي، وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية في الداخل العربي. فهذا هو ما يصون "أمن إسرائيل" ومصالحها في المنطقة، وينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، ويجعل "العدو" هو العربي الآخر (أو الإيراني المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وقد يُسّهل فكرة "الوطن البديل" للفلسطينيين، ويجعل الانتفاضات الشعبية العربية قوّة هدمٍ لكيانات، وليست فقط لإسقاط حكومات!
أمّا المشروع الأميركي الراهن، من وجهة نظري، فيُراهن على استثمار الثورات والمتغيّرات العربية لصالح مشروع أميركي لعموم منطقة الشرق الأوسط، يقوم على إنهاء الصراع العربي/ الإسرائيلي على كلّ الجبهات وإعلان "دولة فلسطينية"، بحيث ينشأ وضع جديد لا تكون فيه مبرّرات لحالات مقاومة ولا لعلاقات عربية خاصة مع إيران، بل توافق أميركي/ عربي/ إسرائيلي شامل، من المحيط إلى الخليج، في ظلّ ترابط أمني واقتصادي وتجاري وسياسي بين واشنطن وكل عواصم المنطقة، وعلى قاعدة تحقيق التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل/ ممّا يُعزز "الهُويّة الشرق أوسطية" كبديل للهُويّات القومية والدينية التي رافقت الصراع العربي مع إسرائيل والغرب.
طبعاً، تحقيق أيٍّ من المشروعين الإسرائيلي أو الأميركي، سيتوقّف على شعوب المنطقة نفسها وعلى الأطراف العربية والإقليمية المجاورة. فإن سارت هذه الشعوب وحكوماتها في "نهج الصراعات العُنفية" والحروب الأهلية، فإنّها حتماً تخدم "المشروع الإسرائيلي" ومراهناته، أمّا إذا تجاوبت المنطقة مع خيار "نهج التسويات" الأميركي المطروح الآن بعد تقاطع سابق مع "المشروع الإسرائيلي"، فإنّ بلدان المنطقة ستكون سابحةً كلّياً في الفلك الأميركي، الذي يرى في هيمنته على المنطقة وثرواتها وموقعها، ضماناً استراتيجياً لاستمرار أميركا الدولة الأعظم في العالم.
هذه هي خيارات المنطقة الآن في ظلِّ غياب "المشروع العربي" الواحد، وفي مناخ الانقسامات السائدة في المجتمعات العربية.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسط جديد"، والدعوة لديمقراطيات "فيدرالية" تُقسّم الوطن الواحد ثم تعيد تركيبه على شكل "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته.
لا يهمّ الحاكم الأميركي إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسّسات القائمة فيه، بما فيها المؤسّسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو "نوع" البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.
وسيكون هذا العام هو المحطّة الأهم في مسيرة إدارة أوباما وفي تاريخ رئاسته الثانية، فهناك جملة استحقاقات منها: الانسحاب الأميركي من أفغانستان، كما هو أيضاً عام تقرير مصير مشروع "الدولة الفلسطينية" ومستقبل عملية التسوية للصراع العربي/ الإسرائيلي.
وكذلك هي أهمية هذا العام بالنسبة لمصير الاتفاق الدولي مع إيران، ولمدى إمكان تحقيق تسوية سياسية للأزمة الدموية في سوريا، وكلّها قضايا ترتبط بنسبة التفاهمات الحاصلة بين واشنطن وموسكو.
وستحاول الآن إدارة أوباما استثمار ما يحدث من مشاريع تسويات لهذه القضايا قبل الخريف القادم، وهو موعد الانتخابات الأميركية النصفية التي يحتاج أوباما إلى فوز الديمقراطيين فيها بغالبية مجلسيْ النواب والشيوخ، لاستكمال أجندة إدارته داخلياً وخارجياً.
صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات داخل البلدان العربية، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟
الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضج الأمور الداخلية حتى تبدأ حركتها، وكذلك هي القوى الإقليمية والدولية التي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية، كيفما كان اتجاه رياح التغيير فيها.
آمال العرب الآن على مصر، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة كانت تخضع دائماً لتأثيرات الدور المصري، إيجاباً كان أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب، وأنّ استقرارها وتقدّمها مرهونان بما يحدث في جوارها العربي.