حسناً فعل السيد مقتدى الصدر حينما أعلن اعتزاله العمل السياسي، وتأكيده أن لا كتلة سياسية تتحدث بصوته، سواء أكانت داخل أروقة مجلس النواب أم في دهاليز الشارع العراقي. وسواء كانت القناعات التي تولدت لديه، بترك العمل السياسي، ناجمة عن تجاربه وخبراته بعد 2003، وتحديداً مع الحكومة الحالية التي يترأسها نوري المالكي، والتي وصفها بأشد العبارات قسوة، أم بتلك التجارب المرة التي مرت به هو وأسرته منذ أيام النظام البائد، فإن ما فعله هو عين الصواب. فالفقهاء يجب أن يبتعدوا عن حلبة السياسة بتقلباتها المعروفة، ويتركوا شؤونها لمن اختاروا أن تكون السياسة مهنة لهم.

ونتمنى أن يكون ما عمله السيد مقتدى الصدر، قدوة للشيخ يوسف القرضاوي ولباقي شيوخ الدين الذين غاصوا في العملية السياسية، ومزجوا بين مقامهم الديني، الذي يجله الجميع، وبين مواقفهم السياسية التي قد يتفق أو يختلف معهم غيرهم فيها.

هذا الخلط يجعل العامة لا تدري هل هذا الشيخ ينطق باسم ثوابت الدين، أم بمقتضيات السياسة المتغيرة. والأمر يكون أشد استغلالاً لمقام الفقيه، حينما يكون هذا الفقيه حزبياً منغلقاً منذ نعومة أظافره كالشيخ يوسف القرضاوي. ولعل حزبية القرضاوي وانتماءه الباكر لتنظيم الإخوان المسلمين، هو ما جعله يتطاول على دولة الإمارات العربية الشقيقة، هذه الدولة التي لها فضل عليه شخصيا، ناهيك عن سياستها المناصرة لكل القضايا الإسلامية، فضلاً عن نشاطها الخيري المشهود لها في الداخل وعلى مساحة واسعة من العالم.

والكل يتمنى أن يكون السيد مقتدى الصدر نموذجاً للسيد حسن نصر الله، ليخلي نصر الله الساحة للسياسيين، بدلاً من أن يقود حزبه السياسي - حزب الله - الذي زجه في صراع لا ناقة للشعب اللبناني فيه ولا جمل! لقد خرج حسن نصر الله بطلاً قومياً حينما ساهم مساهمة فاعلة في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وكان يمكن أن يحتفظ بهذا اللقب السامي وأن يوظفه في خدمة استقرار لبنان وبنائه وازدهاره. لكن حب السلطة والنظرة الدينية الضيقة، جعلته يتحول في نظر الكثير من اللبنانيين وغالبية أبناء العروبة، إلى زعيم طائفي يستغل المشاعر المذهبية لإنقاذ نظام مستبد مرفوض من شعبه! ترى، ما الفرق بينه وبين داعش والقاعدة وغيرهما من الفصائل المسلحة التي تقاتل على أرضية دينية ومذهبية؟!

والحزبية المتلبسة بلبوس الدين، تظهر جلية في الكويت من قبل علماء المذهبين من الملتحقين بالتنظيمات الحزبية، ولعل أكثرها صدمة للجمهور الكويتي العريض هو خروج أستاذ الشريعة ورئيس "رابطة علماء الشريعة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية" د. عجيل النشمي، عن وقاره واتزانه في فتوى نشرت في الوطن بتاريخ 6/1، اعتبر فيها أن السيسي "مجرم طاغية ثبت إجرامه"، وهو بالتالي "يجب ضرب عنقه"! بالطبع، لم يفكر النشمي في عواقب فتوى من هذا النوع على من يقتدون به من الشباب، أو على تأثير ذلك على الأمن القومي لدولته الصغيرة وعلاقتها بدولة محورية كمصر.

والحزبية أيضاً دفعت برجال دين مشهورين ووجوه معروفة، تظهر على المشاهدين في فضائيات كثيرة وتنتمي لحزب الإخوان المسلمين، بالتنديد بزيارة شيخ الأزهر د. أحمد الطيب للكويت مؤخراً، حيث استقبل بترحاب كبير من أمير البلاد. وكان لافتاً أيضاً الترحيب الشعبي، الذي تجلى باستضافة أحد أكبر تجار الكويت له، وكأنه أراد تذكير كل التيار الديني وعلى رأسه حزب الإخوان المسلمين، بفضل هؤلاء التجار على الحركة وبإبلاغهم أن مصر بالنسبة لهم خط أحمر.

ونتمنى ونحن نختم مقالتنا هذه، أن يكون اعتزال السيد مقتدى الصدر فاتحة خير، وأن يقتدي به جميع العلماء والفقهاء ومشايخ الدين، في النأي بأنفسهم عن العمل السياسي، فانشغالهم بالسياسة يفقدهم وقارهم وتبجيلهم، لما في السياسة من تقلبات وألاعيب، وهو فضلاً عن ذلك يزيل اللبس الذي يحدث بين ما هو واجب الاتباع شرعاً، وبين ما هو مجرد رأي يمكن الأخذ به أو الصد عنه.