قمنا في صحيفة "هافنغتون بوست" بجعل المعيار الثالث بؤرة اهتمام تحريرية، والمقصود بهذا المعيار هو تحديد النجاح على أسس تتجاوز المال والسلطة، لتشمل الرفاه والحكمة وقدرتنا على الاندهاش والعطاء. ولكن بينما لا يصعب أن تعيش حياة تستند إلى المعيار الثالث، فإن عدم القيام بذلك هو أمر في غاية السهولة. فمن اليسير أن نترك أنفسنا لكي يستهلكنا العمل، ومن السهل أن نستخدم العمل لكي نجعل أنفسنا ننسى الأشياء والناس الذين يشكّلون أهمية حقيقية بالنسبة لنا، ومن السهل أن نترك التكنولوجيا تلفنا في وجود مفعم بالتوتر. وعملياً فإن من السهل أن نفتقد حياتنا، حتى في غمار عيشنا لها.
هل لاحظت أنه عندما يموت الناس فإن مقالات تأبينهم تدور على الدوام حول المعيار الثالث نفسه الذي تحدثنا عنه؟ وبالنسبة لمعظمنا فإن مقال تأبيننا هو الوثيقة التأسيسية لتراثنا، وللكيفية التي يتذكرنا الناس بها، والتي نواصل العيش بها في أذهان وقلوب الآخرين.. وما لا تسمعه في التأبين هو أمر دال للغاية.
وأياً كان طول الوقت الذي يمضيه شخص ما في حياته، وهو يشعل الشمعة من طرفيها، ويطارد التعريف السام للنجاح، وتغيب عنه الحياة بصفة عامة، فإن التأبين يدور دوماً حول أشياء أخرى؛ ما أعطاه الأشخاص، وكيف تواصلوا مع الآخرين، وما الذي شكلوه بالنسبة لحياة الناس من حولهم. وبصفة عامة، اللمسات الصغيرة والعواطف الممتدة طوال العمر، وما الذي كان يجعلهم يضحكون.
هكذا فإن السؤال المطروح هو: لماذا نقضي كل هذا الوقت حول أمور لن تشق طريقها إلى المرثية التي تقال عنا، أو التأبين الذي يكتب بعد رحيلنا؟
ورغم ذلك، فإننا نمضي وقتاً وجهداً وطاقة كبيرة للغاية، على مواد سيرة الحياة العملية، التي تتبدد بمجرد أن يتوقف قلبنا عن النبض. وحتى أولئك الذين يتركون وراءهم سير حياة عملية مدهشة، والذين كانت حياتهم مرادفة للإنجاز والتفوق، فإن مقالات تأبينهم غالباً ما تدور حول ما فعلوه عندما لم يكونوا عاكفين على تحقيق الإنجازات والنجاحات (على الأقل بتعريفنا الحالي المكسور للنجاح).
خذ على سبيل المثال ستيف جوبز، وهو رجل كانت حياته، على الأقل من منظور الرأي العام، تدور حول ابتكار أشياء دعنا نسلم بأنها كانت مدهشة وتغير قواعد اللعبة. ولكن عندما نهضت أخته لتأبينه في لقاء الاحتفاء بذكراه الذي أقيم في جامعة ستانفورد، لم يكن هذا هو ما ركزت عليه.
نعم، لقد تحدثت عن عمله وعن أخلاقيات هذا العمل، ولكنها تحدثت عنه باعتباره تجليات لعواطفه، وقالت: "لقد عمل ستيف على ما كان يحبه". ولكن، ما الذي أثر فيه؟ ما الذي كان يحبه حقاً؟ قالت أخته: "كان الحب هو فضيلته الكبرى". ومع أنه قد أحب عمله، فقد أحب عائلته أيضاً.
حرصت أخته في تأبينها له على التأكيد على أننا قد عرفنا أن ستيف جوبز كان أكثر بكثير من الشاب الذي اخترع الآيفون، فقد كان أخاً وزوجاً وأباً عرف القيمة الحقيقية لما يمكن للتكنولوجيا أن تفصلنا عنه بسهولة. وحتى إذا أبدعت منتجاً فريداً، إذا أبدعت منتجاً يعيش طويلاً، فإن أبرز ما سيكون في أذهان الناس الذين تهتم بهم أكثر من غيرهم، هو الذكريات التي بنيتها في حياتهم.
في رواية الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسينار الصادرة عام 1951 بعنوان "ذكريات هادريان"، جعلت الإمبراطور الروماني يتأمل موته: "يبدو لي وأنا أكتب هذا، أن كون المرء إمبراطوراً لم يكن أمراً مهماً".
ويصف شاهد قبر توماس جيفرسون هذا الرجل الفريد بأنه: "كاتب إعلان الاستقلال ووالد جامعة فرجينيا"، ولا يرد ذكر لتقلده منصب الرئاسة. إن ما يعنيه القول المأثور "إننا ينبغي أن نعيش كما لو كنا سنموت غدا"، هو أنه لا ينبغي علينا أن ننتظر حتى يومنا الأخير على سطح الأرض لكي نبدأ إعطاء أولويات للأشياء المهمة حقاً.
وأي شخص لديه عدد قليل من الهواتف الذكية وبريد إلكتروني مليء، يعرف أنه من اليسير أن نعيش بينما لا ندرك أننا نعيش. وهكذا فإن معياراً ثالثاً للحياة يمكن أن يكون حياة تعاش بطريقة تتضمن الاهتمام بما سيكون عليه مقال تأبيننا يوماً ما.