لا نبالغ ولا مُبالغة في القول، فمخيم اليرموك يحتاج لمُجلداتٍ تروي قصة اغتيال المخيم (المدينة)، مجلداتِ تروي وقائعَ أحداثٍ وتفاصيل يومية لم تصل حتى الآن لعامة الناس والجمهور، بل عاشها من بقي في اليرموك أو على أطرافه لا البعيد عنه الذي يقرأ ويعتمد على قراءة الصفحات الفيسبوكية ليتخذ من تلك المتابعة الفيسبوكية مُنطلقاً لبناء الموقف.

قصة اغتيال اليرموك، ويوميات التفاصيل المتشعبة، بُعضها يحتاجُ لجهد في تدوينها لجهة النبش فيها والتدقيق، وبعضها يحتاجُ لمناخ لكتابتها، لكنها في النهاية تروي دراما مأساوية لحال فلسطينيي سوريا الذين كانوا على الدوام الحالة الاستثنائية في العطاء في مسار الحركة الوطنية الفلسطيني المعاصرة بكل سلبياتها وإيجابياتها، بكل عجرها وبجرها على حد المثل الشعبي الفلسطيني.

حاووز الماء، أو خزان المياه، كان ضحية، ومعه العدد الأكبر من خزانات المياه على أسطح اليرموك وكتله الإسمنتية التي تَبِزُ أي مدينة حضرية متكاملة في تكوينها السكاني وفي خدماتها وبناها الأساسية التحتية.

عجباً، ولكن هل بقي مكان للعجب أو التعجب. عفواً ولكن هل بقي للشكر أو العفو مكان. فنحن في زمنٍ فاق العجاب والتعجب، وفاق بسطوته آلاماً لم تكن تتوارد عند الواحد بيننا، حتى في أحلام اليقظة التي تُعشعش في دواخل المنكوبين عند شعوب وأقوام العالم. وحتى في دواخل المترفين في بلدان قطعت أشواطاً كبيرة على صعيد الأمن والأمان المجتمعي والحياتي للناس.

في هذا الزمن الذي فاق العجاب والتعجب، كانت خزانات الماء من ضحايا استشهاد بناء متكامل تم تدميره، هو بناء بيتنا، فسقطت تلك الخزانات صريعة من الأعالي، وذهب ماؤها العزيز والثمين ليسيل كما تسيل الدماء على أرض اليرموك، وفي وسط شارع الشهيد مفلح السالم في حارة الفدائية وامتدادها.

خزانات الماء في بنايتنا المُدمرة، باتت في وظيفة جديدة، فمن مناهلٍ للماء الزلال الفرات الوارد إليها من نبع مياه (الفيجة) والمُتدفقة من جبال دمشق الشمالية الغربية المطلة على لبنان، إلى سواتر حواجز وطاولات للحواجز في المنطقة الفاصلة داخل اليرموك.

ومن بين تلك الخزانات التي باتت على هيئة حواجز بتنسيق وترتيب فني على الأرض ممراً ومعبراً للخارجين من اليرموك، ولتوارد السلل الغذائية إلى مستحقيها داخل اليرموك، كان خزان شقتي السكنية في البناية الذي أصبح طاولة توضع عليها الأوراق وملحقاتها.

خزان ماء شقتي، ليس بالشقي، بل هو الآن طاولة توضع عليها الأوراق، حنوناً دافئاً ليس بحرارته التقليدية، بل بحرارة حبه المعنوي لناس اليرموك وأهله الطيبين.

فبات ومن معه من مجموعة الخزانات الهابطة مع ركام بناية كاملة حواجز كأنها تفصل بين القدس والقدس تحت الاحتلال، أو كأنها جدار الفصل بين موضعين. سَمِها ما شئت فهي هي كذلك الآن في مهمتها الوظيفية الجديدة بعد أن سُكِبَ ماؤها وتم اغتيالها، ومع اغتيالها اغتيلت حياة أصحابها في اليرموك لمدايات قد تطول.

خزان ماء شقتي وخزانات ماء بنايتنا، صارت رائدة على القنوات الفضائية ومعها دمار البناء كله، فلم تعرض صورة لليرموك إلا وتكون تلك الخزانات الصريعة جزءاً من التكوين الدرامي المونولوجي للصورة، ومعها بالطبع بنايتنا المُدمرة.

طالت غيبتك، وطال استخدامك في مهام ليست جديرة بك، وليس لك بها من يدٍ. عد إلينا يا خزان بيتنا، فقد اشتقنا إليك أنت وكل خزانات بنايتنا، وأشتاق إليك أطفالنا ليتخذوا كما اعتادوا من جدرانك الصفيحية لوحاً لرسوماتهم.

وحتى دراستهم، وكما قال طفلنا اشتقنا للخزان لنلعب على صفيحته المعدنية لعبة (55). عد إلينا يا خزان بيتنا ومعك خزانات البناية كلها لأننا لا نريد أن تكونوا حواجز بين أبناء شعبي، ولمخيمٍ وأرضٍ لن تكون إلا واحدة.