حمّلت الإدارة الأميركية الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني مسؤولية تعثّر المفاوضات بينهما، ويأتي هذا الموقف الأميركي بعدما رفضت حكومة نتانياهو الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، وبعد استمرار الاستيطان اليهودي في القدس وفي الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، بينما جرى إعلان القيادة الفلسطينية عزمها الانضمام إلى معاهدات ومواثيق دولية ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة.

المشكلة هنا بالموقف الأميركي أنّه يواصل المساواة مجدّداً بين القاتل والضحية، حكومة نتانياهو هي التي واجهت أولاً إدارة أوباما ورفضت مطلبها بوقف الاستيطان، وتستمرّ بهذا الموقف، وهي التي رفضت أخيراً تطبيق الاتفاق بإطلاق الأسرى الفلسطينيين، واشترطت لتنفيذ ذلك إطلاق سراح الأميركي (الجاسوس لإسرائيل) جوناثان بولارد المعتقل في الولايات المتحدة، ثم تأتي الملامة الأميركية على الطرفين معاً..

ولتحصل المساواة أيضاً بين أسرى فلسطينيين كانوا يقاومون الاحتلال وبين عميلٍ إسرائيلي خان وطنه الأميركي!!. لقد كان من الخطأ أصلاً قبول السلطة الفلسطينية بالتراجع الأميركي عن ضرورة وقف الاستيطان قبل استئناف التفاوض، ثم تراكم هذا الخطأ حينما جرى ربط التفاوض بإطلاق أسرى فقط، وهو أمرٌ تقدر إسرائيل على نقضه في أي وقت طالما أنّ من يُفرَج عنهم سيعيشون ضمن المناطق الخاضعة للهيمنة الإسرائيلية، ويمكن لإسرائيل إعادة اعتقالهم أو اغتيالهم.

وجيّدٌ طبعاً أن تصرّ السلطة الفلسطينية على إطلاق سراح المناضلين الأسرى وأن تطلب عضوية المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، لكن ذلك كلّه ما زال يجري تحت سقف "خيار التفاوض فقط" وبالتالي، لا يجب توقّع أن تؤدّي الخطوات الأخيرة للسلطة الفلسطينية إلى تغيير معادلة الصراع الحاصل الآن.

فالتغيير سيحصل في معادلة الصراع بإحدى حالتين: إمّا حدوث ضغط أميركي فاعل على إسرائيل وهو مستبعدٌ الآن، أو نموّ وتصاعد الحالة الفلسطينية الرافضة للمراهنة على نهج المفاوضات فقط.

إنّ الضغط الأميركي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن، من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على رفض أي مفاوضات مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، واستنهاض خيار المقاومة الشعبية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك تكون هناك مصداقية للموقفين العربي والفلسطيني، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للسلطة الفلسطينية في أي مفاوضات مستقبلية.

إنّ مشكلة الفلسطينيين والعرب ليست مع "الخصم الإسرائيلي والحكم الأميركي" فقط، بل هي أصلاً مع أنفسهم، فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد. وقد أخذت إسرائيل من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بها (دون تحديد حدود إسرائيل أو بالنصّ على أنّها دولة احتلال!) وبالتعهّد بعدم استخدام أي شكل من أشكال المقاومة، مقابل الاعتراف فقط بقيادة المنظمة وليس بأي حقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني!.

ولقد وضح حين توقيع اتفاق أوسلو كيف تجاوبت رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية مع المطالب الأميركية والشروط الإسرائيلية ممّا أدّى إلى وجود السلطة الفلسطينية الراهنة على "أرض" غير محدّدة بعدُ نهائياً، مقابل تسليم بسلامٍ كامل مع مغتصب هذه الأرض، فعناصر الوطن الفلسطيني (أرض شعب- دولة) ما زالت كلّها غير محدّدة أميركياً وإسرائيلياً، بينما مضمون "السلام" الإسرائيلي المطلوب هو الذي يتحقَّق على الأرض، في ظلّ حسمٍ أميركي/إسرائيلي ليهودية دولة إسرائيل!.

حبذا لو يتّم التوافق عربياً على حالةٍ بين العرب شبيهة بما جرى الاتفاق عليه في العام 1993 بين "منظمة التحرير الفلسطينية" وإسرائيل، وبإشراف أميركي وأوروبي، بأنّ "التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحلّ النزاعات" وبأن "لا لاستخدام العنف المسلّح". وقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية، حيث جرت المفاوضات العربية-الإسرائيلية طيلة حقبة التسعينات، كما حصلت أنواع مختلفة من أشكال التطبيع العربي معها.

فحيث تتوجّب المقاومة المسلّحة ضدّ عدوٍّ إسرائيليٍّ ظالمٍ محتل، يتمّ تبني خيار التفاوض والتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلح. وحيث يجب إسقاط أسلوب العنف المسلّح بين أبناء الوطن الواحد ودعوتهم للتفاوض وللحوار الوطني الجاد، يحصل الآن التشجيع الخارجي على إشعال حروبٍ أهلية عربية. وحيث يجب التعامل مع الملف الفلسطيني في "مجلس الأمن الدولي" يتمّ إخراج الملف منه، رغم أنّه بالأساس من مسؤولية الأمم المتحدة بعد اعترافها بدولة إسرائيل والتسبّب في تشريد الفلسطينيين من وطنهم. وحيث لا ينفع وطنياً ولا عربياً تدويل الأزمات الداخلية لأيِّ بلدٍ عربي، تندفع قضايا عربية إلى مرجعية "الأمم المتحدة"!!.