هناك مقولةٌ تتردّد الآن كثيراً، مفادها أنّ النفوذ الأميركي في العالم ينحسر، وأنّ الولايات المتحدة تشهد حالاً من الضعف في مواقع عديدة في العالم.

طبعاً، تعتمد هذه المقولة على ما حدث في السنوات العشر الماضية، من بروز للدورين الروسي والصيني في أزماتٍ دولية مختلفة، ومن ظهور لمجموعة "بريكس" التي تضمّ، إضافةً إلى روسيا والصين، كلاً من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، كمثال على وجود تعدّدية قطبية في عالم اليوم، بعد هيمنة القطب الأميركي الأوحد عقب انتهاء "الحرب الباردة" وسقوط المعسكر الشيوعي، الذي كان يُنافس القطب الأميركي لنصف قرنٍ من الزمن.

صحيح أنّ الولايات المتحدة فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة في السنوات العشر الماضية، وأنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام عالمي متعدّد الأقطاب، وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل النفوذ الأميركي ينحسر فعلاً؟ وهل تتصرّف أميركا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم؟!

الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلّب رؤيةً دقيقة لواقع أزمات دولية حالية، ولكيفيّة الانتشار الأميركي الراهن في العالم. فالرئيس الأميركي باراك أوباما عاد مؤخّراً من جولة آسيوية، كان هدفها الأول تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع دولٍ تُشكّل بيئةً جغرافية مهمّة للصين، وبعضها (كاليابان) له مشاكل مع الصين وتاريخٌ سئ للعلاقات معها.

ومن بين الدول الأربع التي زارها أوباما، ثلاثٌ فيها وجود عسكري أميركي مهم منذ الحرب العالمية الثانية (اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية). وهناك قرار أميركي بتحويل ما يُقارب ثلثي قواتها البحرية إلى منطقة المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا. فواشنطن تقوم الآن بخطواتٍ استباقية، لمنع تحوّل القوة الاقتصادية الصينية إلى قوّة عسكرية ضخمة منافسة للولايات المتحدة.

أمّا المحاولات الأميركية لتحجيم روسيا فهي متعدّدة، رغم حرص واشنطن على عدم التصادم عسكريا مع القوة العسكرية الروسية، التي هي الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة وتمتلك صواريخ نووية عابرة للقارات، ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف "الحرب الباردة"، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن) على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين، ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة على كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، ولمشاركة روسيا في مناطق كانت محسوبة كلّياً للنفوذ الروسي.

فالبعض يتصوّر الآن أنّ موسكو تنتصر في المسألة الأوكرانية، بينما الواقع هو أنّ واشنطن ومعها "الناتو" قد وصلا إلى الحدود الاستراتيجية المباشرة للاتحاد الروسي، بعد أن امتدّا أصلاً إلى دول أوروبا الشرقية وأصبح جزءا من هذه الدول أعضاء في "الناتو".

ولا أعلم ما هو معيار "الانحسار" الأميركي، إذا كانت الولايات المتحدة قد أضافت على أوروبا الغربية أوروبا الشرقية، وهي الآن تدقّ أبواب روسيا من خلال المراهنة على تقسيم أوكرانيا بين "شرق روسي" و"غرب أميركي".

ففي كلّ الأحوال ستكون روسيا خاسرة في الأزمة الأوكرانية، حتّى لو سيطرت على القرم وعلى أجزاء من شرق أوكرانيا. فأوكرانيا هي أمام احتمالين: تسوية سياسية تقوم على نظام فيدرالي يُهيمن فيه "الناتو" سياسياً وأمنياً على العاصمة وأجزاء من أوكرانيا، دون إعلان الانضمام لـ"الناتو"..

أو حرب أهلية ستنتهي حتماً بتقسيم أوكرانيا، أو تورّط عسكري روسي مباشر في كل الأراضي الأوكرانية وصراعات مسلحة مع مجموعات مدعومة من "الناتو"، ممّا يستنزف روسيا في منطقة استراتيجية مهمّة جداً للأمن القومي الروسي. ويحضرني هنا ما قاله الرئيس أوباما منذ أسابيع قليلة، حينما سأله صحفي أميركي عن مدى صحّة ما يُقال من أنّ إيران تربح في سوريا وأنّ واشنطن ضعيفة هناك، حيث ردّ أوباما بأنّ سوريا كلّها كانت مع إيران قبل تفجّر الأزمة الدموية فيها، بينما إيران وحلفاؤها هم الذين يُستنزفون الآن هناك.

ولعلّ هذه النظرة الأميركية تنطبق أيضاً على النفوذ الروسي في سوريا، حيث كانت كل سوريا حليفة لروسيا، بينما الآن هناك جماعات ومناطق على علاقة قوية جداً مع الولايات المتحدة. وفي أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية، سيكون هناك حضور لمن هم على علاقة جيدة مع واشنطن!

وإذا كان معظم أوروبا يدور الآن في الفلك الأميركي، وغالبية الدول العربية تقيم علاقات خاصة مع واشنطن، وإيران تتفاوض معها الآن، والهند وباكستان كلاهما يحرص على تطوير العلاقات مع أميركا رغم ما بينهما من صراع طويل، والنفوذ الأميركي يمتدّ الآن إلى دولٍ إفريقية عديدة، كانت إمّا تحت الوصاية الفرنسية أو مناطق صراع مع المعسكر الآخر في فترة "الحرب الباردة"..

فأين يكون "الانحسار" الأميركي؟! هناك في تقديري فارقٌ كبير بين مقولة "الانحسار"، وبين عدم نجاح واشنطن في السنوات الماضية في تحقيق كل ما كانت تريده أو ما خطّطت له من مشاريع.

وهذا ينطبق على حربيها في العراق وأفغانستان، وعلى "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وعلى الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وعلى ما يحدث في سوريا، وعلى المراهنة على حكم "الإخوان المسلمين" في مصر. ففي هذه الحروب والأزمات فشلت واشنطن في تحقيق ما تريده بشكلٍ كامل، لكنّها حتماً استطاعت استنزاف خصومها وجعلهم في موقع المدافع عن وجوده، بعدما نجحت جزئياً في تحجيم دورهم. فالولايات المتحدة لم تكسب حتماً معارك اقتلاع وجود أخصامها، لكنّها نجحت في تحجيم نفوذهم وفي مدّ تأثيراتها على مناطق لم تكن محسوبة لها.

السياسة الأميركية ليست حتماً "قضاءً وقدراً"، وهي تشهد تقلباتٍ كثيرة وتغييراتٍ في الأساليب معتمدةً على نهجٍ "براغماتي"، لكن هدفها ما زال هو بقاء الولايات المتحدة القوّة الأعظم في العالم. وما فشل في ظلّ إدارة "جمهورية" سابقة من أسلوب الغطرسة العسكرية، تتمّ الآن الاستعاضة عنه في ظلّ إدارة "ديمقراطية" بما اصْطُلِح على تسميته بـ"القوة الناعمة"، وهو المصطلح الذي رافق مجيء أوباما للبيت الأبيض.

وهدف هذا المقال ليس التهويل بالقوة الأميركية أو نقض توصيف عالم اليوم المتعدّد الأقطاب فعلاً، بل هو دعوة لفهم الواقع والانطلاق منه، وعدم اعتبار النجاح في الدفاع عن الوجود في بعض المواقع، تراجعاً نهائياً من قبل "المهاجمين" أو قبولاً تلقائياً بحقوق "المدافعين".