هل كانت دولة الإمارات العربية المتحدة في حاجة جديدة لشهادة موثوقة، تؤكد أنها بالفعل دولة التسامح والمحبة؟

بالقطع أن تاريخ الإمارات يشهد بذلك، وطوال العقود الماضية منذ استقلالها، غير أن الدعوة الكريمة التي وجهها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، إلى بابا الأقباط تاوضروس الثاني، لزيارة البلاد، وإرساله طائرة خاصة تقله من القاهرة إلى أبوظبي، جاءت لتعزز من صورة الإمارات التي طبعها «زايد الخير» في نفوس أبنائه وأهله، وشعب الإمارات عن بكره أبيه.

والذين يتساءلون عن سر نهضة الإمارات، يفوتهم أمر بالغ الأهمية، وهو أن التسامح كما كان مفتاح أوروبا للدخول في عصور التنوير والخلاص من ظلامية الأصولية الدينية، فإن التسامح هو الذي ميز الإمارات شعباً وحكومة، وجعل قفزاتها الحضارية واسعة.

تجيء زيارة بابا الأقباط إلى الدولة العربية المسلمة، الإمارات، لزيارة أهليها من جهة وتقديم الشكر لهم، وعلى الصعيد الآخر تفقد المسيحيين العرب هناك، أولئك الذين ينعمون في ظل حكم زايد وأولاده، بحقهم الكامل في ممارسة شعائرهم الدينية، دون ترهيب أو تعنيف، وبلا عسف أو خسف..

وفي استقبال أهل الإمارات قادة وشعباً لبابا الأقباط، يعيد الناظر للمشهد قراءة الأسباب الحقيقية التي جعلت الحضارة الإسلامية حضارة خلاقة، عندما قبلت في بنيتها التكتونية، كل أهل الملل والنحل الذين ساهموا في زخمها علماً، وأدباً، ثقافة، وتجارة، موسيقى وطبابة، وقد كان للعلماء المسيحيين العرب دورهم الكبير في الحياة العلمية في الدولة الإسلامية، وتعايشوا مع زملائهم من العلماء المسلمين في مجتمع تعددي.

وقد ساهم هؤلاء العلماء في ميدان التعليم، فعلموا المسلمين، وتعلموا منهم، وشاركوا في الحلقات العلمية التي كانت ذات طابع تعددي واضح.. أليس المجتمع الإماراتي الذي يزوره بابا الأقباط، صورة من صور تلك الحضارة التي نتطلع إليها اليوم؟

وتحمل زيارة البابا تاوضروس أبعاداً ودلالات دولية عظيمة الأثر، وفي ظني أنها أفضل من ملايين الدولارات التي يمكن للعرب والمسلمين إنفاقها، في محاولاتهم لإظهار الوجه الإنساني والحضاري للعرب والعروبة. فها هو كبير القبط وعظيمهم، والذي يمثل أكبر تجمع للمسيحيين العرب في الشرق الأوسط والعالم العربي، يساهم في التخطيط لمستقبل بلاده، ويشارك في ثورة المصريين في 30 يونيو ويباركها، من أجل تحرر بلاده من استعمار ظلامي داخلي كاد أن يسيطر عليها، وبهذا يسد أفواه المتقولين بالاضطهاد الواقع على الأقباط، ويفتح الباب واسعاً لعهد جديد من المواطنة الحقيقية.

وفي رحلته إلى الإمارات، والتي تبدأ من إرسال الدولة المضيفة طائرة خاصة للرجل تكريماً واحتراماً له، يظهر واضحاً مدى متانة النسيج العربي الإسلامي المسيحي، الذي يقف في وجه مؤامرات المتلاعبين بالأديان والعقول، والمتاجرين بها.

زيارة بابا الأقباط تبدأ من مسجد وضريح المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، والبابا المصري يحمل في ذهنه اسماً ورسماً لحكيم العرب، منذ أن رآه في صدر شبابه في مدينة الإسكندرية في سبعينات القرن المنصرم، وقد وقر لديه أنه رجل ممتلئ بالحكمة والخير، وقبل هذا وذاك فهو ممتلئ بالإنسانية، التي يعبر عنها ليس فقط بالصداقة والوقوف إلى جانب مصر، ولكن بقلب كبير ممتلئ بالطيبة.

«على الأصل دور»، هكذا يقول المصريون في أمثالهم الشعبية، وقد كان زايد أصلاً أصيلاً في هذا المضمار، وفياً لوطنه وشعبه وأمته العربية، ولهذا استحق لقب «زايد الخير»، وهو ما يراه البابا تاوضروس ليس مجرد لقب، وإنما معنى أصيل يتجسد في شخص إنسان.

ذهب «عظيم الأقباط» إلى الإمارات، حاملاً سلاماً كبيراً خالصاً من مصر والمصريين إلى الإمارات والإماراتيين، ذهب على حد قوله ليقدم شكراً واجباً لدولة الإمارات قيادة وشعبا، على الدعم القوي الذي قدموه ويقدمونه لمصر وهي تجتاز مثل هذه الأيام الصعبة.

نهضة الإمارات في عيون بابا الأقباط، وكما أكد في زيارته الأولى من نوعها لبابا قبطي، تتجلى في الاهتمام بالإنسان الإماراتي، والإنسان دائماً وأبداً هو القضية وهو الحل، وبناء الإنسان يبدأ بالعملية التعليمية كما قرر البابا تاوضروس، وهو الأمر الذي أبدع فيه الإماراتيون.

تستحق الإمارات حديثاً مطولاً لجهة تسامحها ومحبتها وإنسانيتها، وهو ما قرره البابا، الذي يعترف بأن دور العبادة تبنى فيها للمسيحيين بمحبة وقلب متسع، غير أن تلك الزيارة تلفت إلى شأن جلل، وهو أن العروبة ليست أوهاماً، وأن الأمل في مستقبل عروبي قائم بالفعل، ويمكن أن يتحقق. وربما جاء زمان «الخراب العربي»، وليس «الربيع العربي»، ليجعلنا نوقن بأن العروبة ليست حلماً نحلمه ونفيق منه.. ليست أملاً نتمناه وهو بعيد المنال.. بل هو واقع حي وشعله مضيئة في وجدان كل عربي...