يعيش بعض الدول العربية أزماتٍ داخلية حادّة، وصل العديد منها إلى مستوى العنف المسلّح، بل إلى حدّ الحروب الأهلية الدموية. والأمر لم يكن محصّلة "مؤامرات خارجية" أو "مخطّطات صهيونية وأجنبية" فقط، رغم وجود هذه المخططات وتأثيراتها السلبية، فأساس العطب هو في "الداخل" العربي، الذي أباح ويبيح استباحة "الخارج" الدولي والإقليمي لكلِّ شؤون العرب وأرضهم وأوطانهم.

هذا الواقع العربي المرير الآن، هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً. والمعارضات العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي واتّباع الإقناع الحر، والتعامل مع المتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ بالتمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات.

لقد انشغل "المعارضون" العرب في مرحلة ما قبل تفجّر الانتفاضات الشعبية في 2011، بطروحات فكرية وسياسية متضاربة، حاولت تشخيص العلّة في المجتمعات العربية، فلم تجد لها دواء إلا ما هو معروضٌ في السوق العالمي من أفكارٍ ونظريات! وقد تعامل البعض مع الأمراض المشتركة في الجسم العربي وكأنّ مصدرها علّة واحدة، بحيث أنّ علاج هذه المشكلة أو تلك وحدها يشكّل في نظر هذا البعض الأساس لعلاج كلّ أمراض المجتمع العربي!

ونظر البعض إلى البلاد العربية كأمَّة واحدة، فأعاد أسباب تخلّفها الراهن ومصائب شعوبها المتعدّدة، إلى غياب الوحدة السياسية بين العرب.. بينما نظر آخرون إلى صيغة الكيانات العربية القائمة بمثابة السقف الأعلى الذي لا يجب تجاوزه.. وبين هذا الطرح "الوحدوي العربي".. وذاك الطرح "الوطني الإقليمي"، دخلت جماعات "العولمة" التي تنظر لمشاكل العالم كلّه بمنظارٍ اقتصاديٍّ بحت، لا يعترف بهويّة ثقافية، ولا بخصائص حضارية مميّزة، ولا يميّز بين عدوٍّ محتل وبين شعبٍ شقيق، إلا بمعيار المصلحة الاقتصادية!

ورغم هذه التباينات الفكرية الواسعة، لم يختلف اثنان في البلاد العربية على أهمّية الإصلاح السياسي والاجتماعي.. الخلاف كان دائماً على الوسائل والكيفيّات. ووسيلته الناجعة هي الدعوة السلمية والإقناع الحر، وليس بقوّة العنف المسلح التي تشرذم الأوطان.

وعندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر. أمّا العامل الديني فهو عنصرٌ هام لبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأيِّ حركة إصلاح عربية، لكنّه يحتاج إلى تأصيل وإلى تمييز عن الجماعات التي تدّعي الوصل بالدين، بينما تتناقض أفكارها وممارساتها مع جوهر كل الرسالات السماوية.

إنّ الواقع الراهن للمنطقة العربية يقوم على مزيج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في معظم البلاد العربية. ومن الطبيعي أن تتحرّك جماعات معارضة للمطالبة بأوضاع أفضل، ومن أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ الحركات السياسية تحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة.. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة في الحركات السياسية العربية المعارضة اليوم؟

أيضاً، الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساسٌ مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع؟ وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض؟ وما العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟

وهل طريق الديمقراطية يمرّ بتجزئة الكيانات وإخضاعها للسيطرة الأجنبية؟ ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل؟ وهل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكاملٍ عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة، ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟! قبل ثلاث سنوات، تردّد في "ميدان التحرير" في القاهرة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم أصبح هذا الشعار عنواناً لانتفاضاتٍ شعبية عربية في أكثر من مكان. لكن لم يكن واضحاً في كلّ هذه الانتفاضات كيف سيكون إسقاط النظام؟ ثمّ ما هو البديل الذي يريده الشعب؟ وما هو الخطّ الفاصل بين "إسقاط النظام" و"عدم سقوط الوطن"؟

إنّ بعض قوى المعارضة العربية يعتبر أيَّ نقدٍ للتدخّل الأجنبي بمثابّة "دفاع عن النظام الحاكم"، وهي بذلك تضع نفسها في موقع المدافع عن الأجنبي ومصالحه، لا عن مصالح الشعب الذي تدّعي تمثيله.

فإذا كانت الحكومات هي المسؤولة أولاً عن حال شعوبها وأوطانها، فإنّ المعارضات هي المسؤولة أخيراً عن مصير هذه الشعوب والأوطان. المعارضات تتحرّك لمحاسبة الحكومات، فمن الذي سيتحرّك لمحاسبة قوى المعارضة التي فشلت في امتحان التغيير نحو الأفضل؟!