من جديد يتأكد أن إسرائيل تتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية على أساس يقين مطلق بأنها التهديد الحقيقي لمستقبل الدولة العبرية، وليس الحليف الأزلي.. ما الذي يدعونا لإعادة قراءة هذا المشهد؟ حتماً كانت القصص الأخيرة التي أوردتها مجلة النيوزويك عن أعمال التجسس الإسرائيلية داخل أميركا هي السبب، إذ أشارت المجلة الأميركية أخيراً إلى أن إسرائيل وبحسب استخباريين أميركيين..
قد تجاوزت الخطوط الحمراء في التجسس على أميركا. غير أن الغريب والمثير هو أن واشنطن، وبحسب المسؤولين عينهم، كانت تعالج تلك القضايا بقفازات من حرير، وكانت حالات التجسس الإسرائيلي تحظى بمعالجة خاصة من السلطات الأميركية تعفيها من العقاب، الأمر الذي يدفع الباحث في الشأن الأميركي الإسرائيلي للتعجب من شكل هذه العلاقة الغريبة، بين أكبر قوة إمبريالية حول العالم، ودولة تابعة لها.
يعن لنا هنا أن نطرح التساؤل: كيف وبأي آليات وأجهزة تتجسس تل أبيب على واشنطن؟ يخبرنا ضابط الموساد الإسرائيلي المنشق «فيكتور أوستروفسكي» في كتابه الشهير «عن طريق الخداع»، أن هناك وحدة خاصة في الموساد الإسرائيلي كانت ولا تزال تتجسس على الأميركيين في نيويورك بشكل رئيسي، وواشنطن التي يدعونها بـ«الملعب» الخاص بهم. هذه الوحدة يطلق عليها اسم «عال» (AL)..
وهي كلمة عبرية تعني «فوق» أو «في الأعلى»، والوحدة هذه سرية جداً، ومستقلة عن المنظمة الرئيسية، حتى إن أغلبية موظفي الموساد لا يعرفون طبيعة عملها، وليس لديهم منفذ لملفاتها الموجودة في أجهزة الكمبيوتر، لكنها موجودة بالفعل وتستخدم ما بين 24 و27 من الموظفين المتخصصين في حقولهم، ومعظم نشاطاتهم داخل الولايات المتحدة.
هل توقفت أعمال التجسس هذه بعد القبض على جوناثان بولارد محلل البحرية الأميركية عام 1986؟ في ذلك الوقت اعتذر شمعون بيريز رئيس وزراء إسرائيل حينها، رسمياً لواشنطن، واعداً بأن لا يتكرر ما جرى وبمحاسبة المسؤولين، لكن التجسس الإسرائيلي على واشنطن لم ينقطع في اتجاهين، الأول داخل أميركا، والثاني عبر الأراضي الإسرائيلية.. كيف وبأي آليات؟
في كتابه الشهير والخطير «سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة»، يحدثنا عالم الاجتماع والمفكر اليساري الأميركي البروفيسور «جيمس بتراس»، عن قيام الولايات المتحدة بعد 11/9 وتفجيري نيويورك وواشنطن، بترحيل مئات العملاء الإسرائيليين الذين كانوا منتشرين في الوزارات الحكومية بهدوء.
كان الترحيل الجماعي للجواسيس الإسرائيليين، رداً على فشل إسرائيل في التعاون لتفادي وقوع المجزرة التي أدت إلى مقتل آلاف الأشخاص. وبحسب بتراس فإنه كان من الظاهر أن لدى المباحث الاتحادية الأميركية FBI، ما يشير إلى أن المخابرات الإسرائيلية كانت تمتلك دليلاً مفصلاً عن هجمات 11/9، دون أن تقوم بتزويد السلطات الأميركية بالمعلومات.
وحتى بعد 2001، استمر التجسس الإسرائيلي الداخلي على الأميركيين. ففي أغسطس 2004 أعلنت المباحث الاتحادية ومكتب مكافحة التجسس في وزارة العدل الأميركية، عن وجود جاسوس رفيع المستوى في البنتاغون «لاري فرانكلين»، يقوم بتزويد اثنين من كبار مسؤولي منظمة الأيباك الداعمة لإسرائيل (ستيفن روزن، وكيت ويسمن) بمستندات سرية تتناول السياسة الأميركية تجاه إيران، وبدورهما كانا يسلمانها للسفارة الإسرائيلية في واشنطن. ماذا عن التجنيد في إسرائيل؟ يفيد ضباط استخبارات أميركيون بأن إسرائيل كثيراً ما تعقد ندوات ومؤتمرات على أرضها، تكون واجهة لعمليات التجسس، منها ما يتصل بالصناعات العسكرية..
وأخرى بأبحاث الفضاء، وثالثة حول التنسيق الأمني المشترك، وتدعو لها علماء بارزين من العالم كله كغطاء، وفي القلب تدعو علماء أميركيين ومسوؤلين وسياسيين وأعضاء في الكونغرس ورجال إعلام وأعمال، وهناك يتعرضون دون دراية أو وعي منهم لكل أشكال الترغيب الحسية والجسدية، المالية والأدبية، ليصبحوا طابوراً خامساً في الداخل الأميركي لحساب تل أبيب.
ليس صدفة أن تظهر هذه التقارير في وقت تتعقد فيه العلاقات الأميركية الإسرائيلية من جراء التعنت الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية، وعليه يتساءل المراقب للشأن الأميركي الإسرائيلي، هل يعزز التجسس الإسرائيلي على أميركا قوة تل أبيب في مواجهة واشنطن؟
قطعاً النتيجة عكسية، إذ يضعف من مواقف الإسرائيليين ويعزز مخاوفهم لجهة خيانة الأميركيين وتنكرهم لهم ذات لحظة، ومقدمات ذلك تصريحات المبعوث الأميركي اليهودي «مارتن أنديك» الذي اتهم إسرائيل بالمسؤولية عن فشل المفاوضات، وتصريحات وزير الخارجية جون كيري عن تحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري..
وكلها تعكس حالة التردي التي وصلت إليها علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة في الحال، وما ينتظرها في الاستقبال. تظهر هذه التقارير في ذكرى النكبة وقيام دولة إسرائيل، وتندرها المستمر بأنها الشعب المختار صاحب الوعد الإلهي بالأرض. غير أن حقيقة الحاصل هو أن تجمع إسرائيل مغمور في جو قاتم من المؤامرات السياسية، يتذللون للأمم الكبيرة مثل أميركا وبريطانيا وروسيا وغيرها، سعياً إلى السطوة وإلى الانتقام.. ولذلك سيظل فرع إسرائيل يابساً غريباً عن شجرة الإنسانية، إلى أن تعلم أنه لا عنصرية بين الناس ولا احتكار لدين الله.